(49) من شامبليون لنفرتيتي.. يا مصرى لا تحزن!

يلزمنا رصد العلاقة بين نابليون، وشامبليون، وديليسبس، وميريت! وأخيرا عبقرى الصدفة النحات بارتولدي

محمد بكر
Ad

قضية نسخة تمثال شامبليون 1875، أعمق من مجرد تمثال مُسيء للكرامة المصرية والمصريين، نحته بارتولدى لشامبليون يدعس بحذائه هامة ملك مصرى قديم! كيف مرّ هذا التمثال عبر العصور دون أن يثير يومًا نقاشًا علنيًا فعليًا فى فرنسا. لماذا هذا الصمت؟ هل هو جهل جماعي؟ أم شعور بالحرج؟ أم ببساطة تطبيع لمثل هذه الصور التمثيلية؟ فالفن ليس محايدًا أبدًا! إنه يعكس اختيارات، ونظرات، وأيديولوجيات، وما نحتفى به فى الفضاء العام يقول الكثير عن قيم المجتمع! ليست المسألة رقابة أو نقدًا أو مجرد احتجاج، بل وعى بما ندركه، وننقله للأجيال القادمة، وبما نقبله أو نرفضه كإرث مشترك. ولنبدأ من الوضعية الواثقة جدًا للشخصية الرئيسية، مهيمنًا، متدبرا، وتحت حذائه، الرأس الملكى مجذوذا ومسحوقا فى سلبية مريبة! هذا ليس مجرد اختيار جمالى للتحكم فى الكتلة كتبرير وصف الكوليج دى فرانس للتمثال بصفحتها الرسمية! فهذا النوع من التكوين يعبّر عن تسلسل هرمى ضمنى يضع العالم الغربى فوق الشعب الخاضع. وبهذا، يُنشئ التمثال صلة مباشرة بين العلم الغربى والسيطرة على المعرفة المصرية. وهو نوع من السيطرة لا يتم عبر السلاح، بل من خلال الصورة، والفن، والسرد. فى هذا السياق، يصبح تمثال شامبليون ناقلًا صامتًا لذاكرة استعمارية، ومع ذلك، لا يزال قائمًا فى الفضاء العام، دون لوحة توضيحية، ودون سياق فنى تاريخى أثرى حقيقى يشرحه!

ولنفهم الأساس، يلزمنا رصد العلاقة بين نابليون، وشامبليون، وديليسبس، وميريت! وأخيرا عبقرى الصدفة النحات بارتولدي! فنابليون كان أول من جعل مصر جزءًا من اهتمام علمى منهجى فى سياق الحملة الفرنسية، وشامبليون هو من أرسى الأساس لفهم اللغة الهيروغليفية من خلال حجر رشيد، رغم أن العديد من العلماء سبقوه، لكن تحقيقه لتفسير هذه اللغة من خلال المنهج المقارن بين الهيروغليفية والقبطية جعله يتسيد مفهوم (المكتشف) ويضمن لفرنسا الريادة والسيادة المعرفية على الآثار المصرية أبد الدهر! وأوجست ميريت هو المُنظم الإدارى لسيطرة فرنسا على الآثار المصرية منذ زيارته الأولى لمصر 1850 واكتشافه معبدا للإله أوزوريس بمنطقة سقارة، وتأسيسه لمصلحة الآثار 1858، والمتحف المصري، وإشرافه على ترتيبات معرض باريس الدولى 1867، وقتها معرفته بتلميذه بارتولدى ألهمته بتمثال شامبليون الصغير بمدخل المعرض، ليكون وضع حذائه – وقتها – على رأس أبو الهول، تعبيرا عن مرحلة كثيفة جدا من فضل فرنسا على الآثار المصرية، وآمن ميريت باستحقاق فرنسا له، فكان الرابط بين السلطة المصرية ورمزية الهيمنة الفرنسية على الآثار بطريقة غير مباشرة! أما الثعلب ديليسبس فكان مشروعه عن قناة السويس هو أحد طرق مد النور الفرنسى والأوروبى لآسيا بصورة أخرى، وتجديد لرؤية نابليون فى التوسع الإمبراطورى الذى خسرته فرنسا بالحرب ورغبتها لاستعادته بالتجارة والمعرفة! ومن هنا يمكن تخيل مربع العظمة الفرنسية لاحتواء مصر كرمز لحضارات العالم القديم! 

ليبزغ خبث بارتولدى فى نسخة شامبليون الجديد 1875 بجعل حذاء شامبليون على رأس الفرعون لا أبو الهول – ولو كان ذلك لأسبابه الشخصية انتقاما من خديوى إسماعيل – إلا أنه أصبح مترجما لطموح مربع العظمة! فالحذاء أصبح رمزية عميقة جدا لاستحقاق فرنسا ما يجب أن يبقى تحت السيطرة! وهنا تأتى قيمة شامبليون الجديد كرمز لتفاعل القوة السياسية بالثقافية بالفنية، لتأكيد القوة الفرنسية على تاريخ مصر الثقافى والحضاري، ورمز للإنجازات العلمية والثقافية، واستمرار النفوذ الثقافى والسياسي، وارتباط تاريخى تبعى أبدى مع مصر بكل ما تحمله من معاني!

أثناء الحقبة الاستعمارية، عقدت القوى الأوروبية اتفاقات – صريحة وضمنية – ليس فقط لتقسيم الأراضي، بل أيضًا لتقاسم ما تحتويه فوق الأرض وتحتها، وبشكل خاص الترتيبات الفرنسية–البريطانية، فإحداهما تحصل على السيطرة الإدارية والعسكرية، بينما تطالب الأخرى بحق التنقيب، والاستخراج، والتصدير شاملا الموارد المعدنية، وكذلك التحف الفنية والتاريخية. هذه السياسات التقسيمية كانت أصل ما يُعرف اليوم بـ”التراث فى المنفى”.تراث تم استخراجه بأسلوب منهجي، ثم أُضفيت عليه شرعية عبر سرديات علمية، مثل الاتفاق الودى (Entente Cordiale) فى 8 أبريل 1904 الفرنسي–البريطاني, وتضمن نصوصًا سرية تتعلق بمصر والمغرب؛ منها أن بريطانيا تؤكد عدم نيتها تغيير الوضع السياسى فى مصر، وفرنسا تقر بإبقاء بريطانيا تتحكم فعليًا فى الشأن المصري، وبقاء المدرسة الفرنسية فى مصر، وهذا الاتفاق سمح لفرنسا بالحفاظ على نفوذ ثقافى وتعليمى بمصر، حتى ضمن الهيمنة البريطانية، مما ينطوى على تقسيم رمزى يشمل السطح (الحكم والإدارة) والباطن (الثروات والآثار)، ليبقى (التراث فى المنفي) مصطلحا محوريا يصف مصير تماثيل مثل نفرتيتى وغيرها ممن خرجت بـ”اتفاقات مشروعة ظاهريًا” لكنها مشبوهة فى جوهرها.

وللوعى بحقيقة هذه الإستراتيجية الشامبليونية خلال هذه الحقبة، نرصد حالة خروج تمثال نفرتيتى من مصر فى ظروف مشبوهة! فنجد أن السيطرة على القطع الأثرية ليست مجرد مسألة ترميم أو حفظ، بل أداة للهيمنة الثقافية والسياسية! اكتُشف تمثال نفرتيتى فى ديسمبر 1912 خلال حفريات بعثة ألمانية رأسها عالم الآثار الألمانى لودفيج بورخاردت. فى تلك الفترة كان معمولًا بنظام تقسيم الآثار (Partage) بين البعثات الأجنبية ومصلحة الآثار المصرية، حيث تُعرض الاكتشافات على هيئة مختصة تقرر كيفية تقسيمها، عندما أوفد ماسبيرو، كبير علماء الآثار الفرنسيين، الشاب جوستاف أوليفر كمسؤول (مصري) عن تقسيم ما يُعثر عليه بحفريات تل العمارنة، وبموجب هذا النظام نُقل تمثال نفرتيتى إلى ألمانيا عام 1913 باعتباره من حصة البعثة الألمانية. ظاهريًا، تمت إجراءات التقسيم وتصدير التمثال وفق القوانين السارية آنذاك، عندما وافق عليها أوليفر دون اعتراض! غير أن مصادر تاريخية ووثائق لاحقة كشفت أن بورخاردت استخدم الخداع والتحايل لضمان حصوله على تمثال نفرتيتى ضمن نصيب البعثة الألمانية. بتعمّده عرض التمثال أمام لجنة التقسيم بصورة باهتة ومن زاوية غير واضحة، بل وتركه مغطى بطبقة من الأتربة أو الجص أثناء المعاينة وبتقرير وُجد عام 1924 – كتبه شاهد عيان (سكرتير الجمعية الشرقية الألمانية) عن اجتماع التقسيم سنة 1913 – ذُكر أن بورخاردت قام بطلاء التمثال بطبقة جبسية لإخفاء جماله الحقيقي، وقدم للمفتش صورة فوتوغرافية رديئة للتمثال مدعيًا أنه مجرد قطعة من الجبس! ونتيجة لهذا التضليل، لم يُدرك المفتش المصرى (لوفيفر) قيمة التمثال الحقيقية، وظنّه مصنوعًا من الجبس قليل الأهمية، فتمت الموافقة على إعطائه للألمان، لاحقًا، تبيّن أن رأس نفرتيتى مصنوع من الحجر الجيرى الملوّن بطبقة رقيقة من الجص، وهو عمل فنى رائع لا يقدّر بثمن! بناء على ذلك تعتبر مصر أن خروج تمثال نفرتيتى تم بالغش والتدليس والغلط، رغم التزامه الشكلى بنظام التقسيم آنذاك، بتعمّد إخفاء الحقيقة عن السلطات المصرية، وتؤكد الوثائق أن الجانب المصرى لم يمنح إذنًا صريحًا بتصدير هذه التحفة الفريدة، لأن المسؤولين لم يكونوا على دراية بحقيقتها وقيمتها وقت التقسيم! 

ومنذ عرض تمثال نفرتيتى للعامة فى برلين عام 1924، توالت المطالبات والجهود المصرية لاستعادته بداية من 1924، 1925، 1929، 1933، حتى بعد الحرب العالمية 1946، ومرحلة الخمسينيات، بل وحتى عام 1967، ثم زيارة الرئيس مبارك لبرلين 1989 وتصريحه المنكوب أن نفرتيتى (أفضل سفير لمصر) بما اعتبر قبولا ضمنيا لاستمرارها فى ألمانيا! ليأتى 2005 وحتى 2023 مع محاولات جادة من د. زاهى حواس لتدارك الأمر، دون جدوى! لتبقى حقيقة خشية الجهات الألمانية أن الرضوخ لمطلب إعادة نفرتيتى سيفتح الباب لسيل من مطالبات استرجاع آثار أخرى بمتاحف أوروبا! واقعيا ملف نفرتيتى من ألغاز الآثار والسياسة والثقافة والتاريخ أيضا، ولكن حقيقته تكمن كأثر من آثار حذاء شامبليون فوق الهامة المصرية حتى الآن! فإقصاء شامبليون لمتحف بارتولدى بكولمار سيكون أول تفكيك تاريخى لمربع العظمة! ومدخل شرس للمطالبة ببطلان خروج نفرتيتى من مصر، وإعادة حق الشعوب المستعمرة فى قراءة صحيحة للتاريخ! فالباع طويل من شامبليون لنفرتيتى بكواليس ودهاليز التاريخ والمصالح، ولكن لم يفت الوقت بعد!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]