ترجع كلمة فيلار (Villar) لجذور لاتينية/إيطالية–إسبانية بمعنى «بيت ريفى / ضيعة / منزل واسع فى الطبيعة»، ومع تطور أغراض العمارة الأوروبية وتوسعات المشاريع، أصبحت رمزا لمكان السكن المستقر والراقي، المتطور لمعنى أوسع كمجتمع صغير أو تجمع عمرانى مميز ذى طابع هادئ ومميز. والمتتبع لإستراتيجية مصر الجديدة نحو رؤية 2030، يلاحظ تطويرها لمفهوم الـ«فيلار» على مستوى مصر، بتطويع ذكى مدروس لتطوير مفهوم المجتمع الصغير أو التجمع العمرانى العصرى لتشمل عموم «الجمهورية الجديدة» لإعادة توزيع السكان والموارد فى مختلف ربوعها.
تظهر هذه الإستراتيجية فى محاور الساحل الشمالى (البوابة المتوسطية والعمرانية الجديدة) جنوب الوادى (الأمن الغذائى والامتداد الزراعي) سيناء (الأمن القومى + الربط مع آسيا) البحر الأحمر (السياحة والطاقة والتعدين) العاصمة الإدارية (إعادة هيكلة الإدارة والسيادة).
بهذا المعنى، لم يعد تطوير الساحل الشمالى يُختزل فقط فى السياحة، بل أصبح حيويا لإعادة توزيع السكان والموارد على امتداد الساحل، سواء عمرانيا بالتحول من مصيف موسمى لمدن دائمة مثل العلمين الجديدة و«رأس الحكمة»، بمواصفات مدن ذكية مستدامة، أو بالانتقال من الاستخدام الصيفى 3 أشهر لحياة دائمة تشمل «إسكان، جامعات، مدارس، مستشفيات»، فلا تكون مجرد «قرى سياحية مغلقة”. وهو ما يحول الساحل لمحور اقتصادى وبوابة المتوسط، بجعله مركزا اقتصاديا وتجاريا متصلا بالموانئ (جرجوب غرب مطروح، العلمين الجديدة)، واستثمارات كبرى فى الطاقة المتجددة بالظهير الصحراوي، وجذب لاستثمارات صناعات خفيفة ولوجستيات، لخدمة حركة التجارة بين أفريقيا وأوروبا، مع تطوير مكثف لمناطق خدمات مالية وإدارية (مثل أبراج العلمين) كامتداد للقاهرة الجديدة، لينطلق الساحل كنقطة جذب للأوروبيين والخليج، لدرجة تقديمه كنموذج لمدينة مصرية «عالمية» على البحر المتوسط، تنافس الإسكندرية التاريخية فى دورها الثقافي، باستضافة جامعات دولية، مراكز مؤتمرات، فعاليات ثقافية، معارض، وأوبرا (مشروع أوبرا العلمين)، لإبراز مصر كفاعل حضاري، وليس مجرد مقصد سياحي. وهو ما يجعل المحور الاجتماعى لهذه الإستراتيجية يحقق العدالة المكانية بنقل الخدمات والسكن وفرص العمل للشمال، ليتيح إعادة توزيع الثروة جغرافيًا، وتوفير وظائف جديدة بمجالات غير سياحية كالتعليم، الصحة، النقل، الصناعة الخفيفة، وتمكين الشباب من السكن والعمل خارج القاهرة والإسكندرية بدلًا من الهجرة العشوائية! واقعيا فتطوير الساحل الشمالى هو مشروع إعادة هندسة للديموغرافيا المصرية، وتحويل «شاطئ موسمي» لرئة اقتصادية وثقافية وديموغرافية لمصر الحديثة، تلعب دورًا مكملاً للعاصمة الإدارية والقاهرة الكبرى.
وفى قلب هذه التحولات يبرز مشروع «نيو مارينا» غرب الطريق، وحزمة مشروعات القطاع الخاص المحيطة به، كترجمة عملية لفكرة الفيلار، فهو ليس مجرد امتداد لمارينا القديمة، بل نقلة نحو الداخل ببنية تحتية قوية (محطات ضخ، أنفاق، بحيرات صناعية)، تتيح إقامة مجتمع متكامل بعيدًا عن ضيق الشريط الساحلي. وهكذا يتحول لجسر بين الماضى والحاضر، يربط رمزية الساحل التقليدى برؤية مصر الحديثة، بما يسمح بفرصة لإقامة مجتمع متكامل (سكن، خدمات، أنشطة اقتصادية) كأحد طرق رفع القيمة الاستثمارية للأرض غرب الطريق، مما يعبر عن أنضج ترجمة لإستراتيجية الدولة فى فكرة التمدد فى العمق بدلًا من التكدس على الشريط الساحلى الضيق.
لكن الرؤية لا تقف عند الشمال وحده، بل تمتد لجنوب الوادى حيث مشروع توشكى والوادى الجديد والدلتا الجديدة. هنا يأخذ مفهوم «الفيلار» شكل تجمعات عمرانية حديثة تحقق الأمن الغذائى عبر استصلاح ملايين الأفدنة، وتوطين السكان، وإنتاج محاصيل تقلل من الاستيراد وتفتح أبواب التصدير، مما يساعد على تقليل التكدس فى الدلتا، واستغلال مياه جوفية وامتدادات نهرية، تستهدف إضافة ملايين الأفدنة للرقعة الزراعية. ذات الرؤية تنتقل لشبه جزيرة سيناء، لتأسيس تنمية شاملة عبر زراعة، سياحة، موانئ، مناطق صناعية مع دعم الأمن القومي، وبالوقت ذاته استغلال أمثل لقناة السويس – المناطق الحرة – السياحة العالمية (شرم، دهب)، لربط سيناء بباقى مصر (أنفاق قناة السويس، محاور تنموية).
بل يمتد مفهوم فيلار المصرية للبحر الأحمر (الجلالة – الغردقة – مرسى علم) ليحقق تجمعات عمرانية مميزة تستهدف مجتمعات وأنشطة السياحة – الطاقة – التعدين، استثمارا للجبال الغنية بالمعادن، لتكون المحصلة جذب استثمارات سياحية، مشروعات محطات طاقة شمسية ورياح، نشاط تعديني، وتحقيق خط موازٍ لقناة السويس، منفذ بحرى على آسيا والخليج، ومصدر عملات صعبة، وبذلك تتحول سيناء من مجرد منطقة حدودية، لمجتمع حضرى متكامل يعزز الاستقرار والتنمية معًا.
مفهوم فيلار المصرية لم يعد مجرد مصطلح معمارى مستورد، بل تحول فى التجربة المصرية لمنهج تفكير عمراني، بتوسعات محسوبة تراعى إمكانياتها، تجسد فى مجتمعات متكاملة موزعة على محاور التنمية الخمسة: الساحل الشمالي، جنوب الوادي، سيناء، البحر الأحمر، العاصمة الإدارية الجديدة، بصورة ستؤتى ثمارها فى العقود القادمة، لتتحول هذه المحاور لرئة عملاقة تضخ «أكسجينا جديدا» فى جسد الجمهورية الجديدة، يكتب لها حيوات جديدة تتجدد عبر العصور. ولا ينال من ذلك ما تمر به مصر حاليا/ مرحليا من أزمات اقتصادية أو سكانية أو اجتماعية! فحياة الدول أطول من سكانها! وما ننجزه فى الجغرافيا سيوثقه التاريخ، فمصر كانت وبقيت وستستمر يفسرها ويشذبها الزمن والتحديات! لتضم محاولات الأحفاد فى زمن صعب إلى خلود القدماء فى زمن نستلهمه.
* محامى وكاتب مصرى
