خواطر مواطن مهموم 306

لو سأل المحقق مثلا العينة: «فى قائمة المرشحين على الرئاسة، من هى شخصيتك المفضلة؟»

توفيق اكليمندوس
Ad

عن موضوعية الأرقام واستخدامها

بداية أعتذر للخبراء لأن أغلبهم إن لم يكن جميعهم يعلم ما أريد قوله اليوم. الكثير منا يقول «لغة الأرقام واضحة» ويستند إلى أرقام لبيان موضوعية كلامه واعتماده على وقائع غير قابلة للنقاش وعلى علمية مقاربته، ولكن هذا الزعم ليس دائما صادقا.

نبدأ بمثال يعرفه كل من انخرط فى عملية قياس الرأى العام، فى أغلب الأحوال إجابة أفراد العينة تتوقف على كيفية صياغة السؤال، وعلى توقيت طرحه على الجمهور، وفى عدد من الأحوال لا تسمح بالتنبؤ بالسلوك المستقبلى، حتى لو اتسمت الردود بالاستمرارية عبر فترة ممتدة من الزمن.

لو سأل المحقق مثلا العينة: «فى قائمة المرشحين على الرئاسة، من هى شخصيتك المفضلة؟» سيكون ردها مختلفا عن ردها على سؤال: «ما توقعاتك فيما يخص الانتخابات المقبلة؟» أو عن ردها على سؤال: «لمن ستعطى صوتك؟”. قد أكن احتراما شديدا لشخصية سياسية، وأراها أكثر كفاءة و/أو نزاهة من منافسيها، ولكننى لن أنتخبها لأن توجهاتها السياسية لا تتفق ومصالحى، أو لأننى أرى أن فرص فوزها فى الانتخابات ضئيلة وأفضل أن أعطى صوتى لمرشح فرصه طيبة وأراه أقل ضررا من منافس لا أحبه ويتمتع أيضا بفرص طيبة. 

مثال آخر يخص ما يقوله الإعلام الغربى عن روسيا، يقول دائما إن الناتج المحلى الإجمالى الروسى أقل بوضوح من الناتج المحلى لإيطاليا، رغم أن جنوب إيطاليا متخلف نسبيا، ورغم الفارق الضخم فى الموارد وعدد السكان. هذا صحيح بدون شك، ولكنه يتجاهل أمرا بالغ الأهمية، فى عدد من المجالات الاقتصادية تتمتع روسيا بمكانة وقدرة على التأثير وعلى الإضرار لا تتمتع بها إيطاليا، روسيا بالغة الأهمية فى البترول والغاز والطاقة النووية والحبوب والسلع الغذائية وبدرجة أقل فى مجال الأسلحة.

وفى الاتجاه نفسه يجب توخى الحرص عند المقارنة بين ميزانيات الدفاع فى عدد من الدول، قد تبدو الأرقام الصينية والروسية متواضعة إن قورنت بالأرقام الأمريكية، ولكن الهوة واسعة بين الرواتب وكلفة الأسلحة فى كل بلد من هذه البلاد وغيرها. أقصد أن الأرقام المتعلقة بحجم الإنفاق لا تعتبر دالة على فارق فى القوة وعلى فعالية أكبر فى استخدامها.

وعندما يفتخر رئيس أمريكى أو فرنسى أو رئيس وزراء بريطانى (مثلا) بميزانية دفاع بلده ليذكّر الجميع بأهمية مساهمتها للدفاع عن أوروبا فى إطار «الناتو» يتناسى أن بلاده تتحرك فى عدة مسارح، وأن جزءا كبيرا من هذه الميزانية مخصص لمنطقة المحيطين الهندى والهادى أو للتحرك فى أفريقيا.

فيما يتعلق بالعدوان الروسى على أوكرانيا، يلجأ الخطاب الروسى إلى أرقام كثيرة ليثبت أن انتصار روسيا مؤكد، كما تلجأ أوكرانيا إلى أرقام أخرى لتثبت أن روسيا تعانى بشدة وأنها لن تكون قادرة على مواصلة الحرب. ويعلم العسكريون فى كل أنحاء المعمورة أن الحرب غدارة، وأن الحظ والروح المعنوية المتقلبين بطبعهما يلعبان فيها دورا مهما ومخيفا، إلى جانب طبعا حسن التخطيط وكفاءة وبسالة القوات وموازين القوة. ولكن الرأى العام العالمى بما فيه عدد معتبر من الساسة الغربيين فى مقدمتهم الرئيس ترامب يميلون إلى تصديق الخطاب الروسى.

الخطاب الروسى يتكلم كثيرا عن أعداد سكان أوكرانيا الذين يتكلمون الروسية، ونسبتهم حقا مرتفعة، ومن بينهم الرئيس زلينسكي، ولكن هذه الأرقام تخفى عدة حقائق، ليس كل من يتكلم الروسية روسى العرقية أو روسى الهوى. أغلب الأوكرانيين يتكلمون اللغتين الروسية والأوكرانية، من ناحية أخرى لا يمكن القول إن كل أصحاب الأصول الروسية يريدون ضم أوكرانيا لروسيا، «خاركييف» مدينة يقطنها أغلبية من ذوى الأصول الروسية ولكنها قاومت العدوان، ولا يمكن القول إن كل أبناء العرقية الأوكرانية كانوا يعادون قبل بداية الحرب توثيق العلاقات مع روسيا، وطبعا لعب العدوان الروسى دورا كبيرا فى دعم القومية الأوكرانية وروابطها.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية