يخطئ من يظن أن رمزية معنى وأثر نسخة تمثال شامبليون 1875 بالسوربون بباريس، بزغت من العدم، مع أول فيديو لهشام جاد طرحه على «يوتيوب» فى نوفمبر 2012! فالتمثال لم يكن مجرد عمل فنى، بل كان إعلانًا بصريًا صريحًا عن عقلية الغرب الاستعمارية، لمعاملة مصر ليست فقط كأرض محتلة، بل تاريخها ذاته موضوعٌ تحت الأقدام كإفادة الباحثة بينيدك سافوى بالكوليج دى فرانس (منذ اتفاقية تقسيم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا، فكل ما تحت الأرض تبع فرنسا وما فوقها تبع بريطانيا)! كل من يدخل أبواب السوربون ويمر على شامبليون سيأخذ ختم «أنت شاهد على تفوقى، علمى، قدرتى على فض الغموض القديم، فاخشع لأنك فى حضرة قاهر الغموض»! لتكون النتيجة ربط رمزية الحجر بمكان تلقى المعرفة، لإخضاع العقول لاشعوريا، فتقبل معنى السيادة تلقائيا طالما بقى فى صمته وهيبته!
ومن زمن تكريس شامبليون بالسوربون، عاشت مصر سلسلة من امتحانات «الكرامة الوطنية المصرية»! وإذا كان التمثال قد بدأ منذ 1875 بالحجر، فإن تتابع الأحداث يكشف لنا كيف انتقل الامتهان إلى الجسد والفكر معًا، ليصنع سجلًا من «ضحايا رمزية شامبليون» فى التاريخ المصرى الحديث. للأسف توغل وتغلغل معنى ومفهوم دعس الهامة المصرية داخل الوعى الجمعى المصرى، فى سردية تاريخية كشفها دعس مستمر ومختلف للهامات المصرية التى تصدت لقضية الكرامة المصرية! بداية من «أحمد عرابي» 1881 ممثلا لصوت الفلاح والجندى المصرى لأول مرة فى مواجهة السلطة المحلية والاحتلال معًا، لكن انتفاضته لم تكتمل، فقد قُمعت الثورة العرابية لخيانة ديليسبس الفرنسى بالاتفاق مع الإنجليز، وغُدر به فى معركة التل الكبير 1882، ليُنفى لسيلان، فيكون أول «فرعون حي» وضعه الاستعمار تحت الأقدام لا بتمثال، بل بنفى طويل وتجريد من مجده، وحرص مركز لمحو صورته من الذاكرة الوطنية، وتحويله لرمز للهزيمة بدلًا من أن يكون رمزًا للكرامة.
عاصر عرابى «عبد الله النديم»؛ «خطيب الثورة العرابية» وصوت الشارع المصرى، الذى شكل الوعى الجماهيرى ضد الاحتلال. لكنه دفع ثمن الكلمة، وعاش مطاردًا متنكرًا أكثر من عشر سنوات بعد فشل الثورة، متنقلًا بين الأقاليم، ليموت وحيدًا بالإسكندرية 1896، بعد أن أنهكته المطاردة والفقر، ليكون الضحية الثقافية الأولى، والصوت الشعبى الذى أرادوا إسكاته، ليبقى التمثال (شامبليون) يروى رواية المنتصرين!
ثم «محمود سامى البارودى»؛ المنضم لعرابى، كـ«رب السيف والقلم» وأحد أبرز وجوه الثورة، ليصبح شعره ملحمة للكرامة الوطنية، لكنه مثل عرابى، نُفى لسيلان سبعة عشر عامًا، وعاد فاقد البصر، محطم الجسد، وظل يكتب عن الكبرياء، لنجد فى شخصه، صورة أخرى للكرامة التى تظل حيّة رغم سحق الجسد، فيبقى شعره بمثابة شهادة مقاومة، وأيضًا وثيقة ألم لإنسان رأى نفسه سيفا مطرودًا من غمده.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، ظهر “مصطفى كامل”، الذى ملأ مصر، وأوروبا بخطبه، وصحفه وكتاباته، وحمل القضية المصرية لباريس ولندن، وكتب مؤلفه الشهير «المسألة المصرية» ليدحض صورة المصرى العاجز عن الحكم الذاتى، ولكن يقهره المرض والعمل والسفر والمعارك الإعلامية، ليخبو مشعله فى الرابعة والثلاثين عام 1908، تاركا شعلة من الكرامة الوطنية، انسحقت تحت الضغوط ونوعًا من «القتل البطيء»!
ثم قاد «محمد فريد» الحزب الوطنى بعد مصطفى كامل فى أصعب ظروفه، فأنفق كل ثروته دعما للقضية، اضطهدته بريطانيا ونُفى لباريس وجنيف وبرلين، عاش فقيرًا مريضًا ناشرا أوجاع الكرامة المصرية فى صحف فرنسا وسويسرا وإستانبول، حتى مات مُعدما بألمانيا عام 1919، وعاد لمصر فى تابوت دفع تكلفته المصرى الأصيل الحاج خليل عفيفى تاجر القماش بالزقازيق، ليُدفن وسط جنازة شعبية مهيبة. محمد فريد هو الصورة الأكثر اكتمالًا لفلسفة “ضحايا شامبليون” كملك من ملوك الكرم والكرامة المصرية، دُعس فى حياته بالاضطهاد والنفى، والفقر، والمرض! وإذا كان شامبليون قد دعس رأس الملك حجرا ميتا، فبريطانيا دعست جسد فريد حيا مناضلا، لدرجة تُظهر أن «الدعس» لم يكن خطابًا بصريًا فحسب، بل سياسة واقع أنتجت هشاشة سيادية جعلت مجرد إعادة جسد زعيم لوطنه إنجازًا وطنيًّا بحد ذاته!
ليأتى زمن «سعد زغلول» وثورة 1919 وعودة الكرامة الشعبية المصرية للمشهد فى ثورة الملايين ضد الاستعمار، ولكن الإنجليز نفوه لمالطة وسيشل، ليصادف المعنى نفسه «الحذاء على هامة الكرامة المصرية»، التى دائما ثمنها النفى والإبعاد!
استمر الدعس الشامبليونى على الوعى الجمعى المصرى، فى النصف الأول من القرن العشرين، لتنتقل المعركة من السلاح والسياسة للفكر والثقافة! فها هو «طه حسين»، بكتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، يرفض أن يُنظر لمصر كذيل للغرب، مؤكدًا أنها جزء من الحضارة الإنسانية، بينما واجه فى «فى الشعر الجاهلي» هجومًا شرسًا اعتبره البعض إهانة للتراث، لكنه فى العمق كان يقاتل الاستعمار الثقافى لمصر! وينضم له «سلامة موسى» بخوضه معارك فى ميدان الثقافة ضد محاولات الغرب تصوير المصريين كأمة متأخرة، لكنه دفع ثمنًا بتهم التخوين والعمالة! حتى «جمال حمدان» وموسوعته «شخصية مصر»، أعظم دراسة لهوية مصر الحديثة، التى كشف فيها كيف شوه الاستعمار صورتنا فى الجغرافيا والتاريخ، مات محترقا فى ظروف غامضة! وانضم كضحية متأخرة فى سلسلة «ضحايا شامبليون» كرجل كشف عورات الاستعمار، فدُفع خارج الحياة فى ظروف غامضة، شملت دعس هامات سميرة موسى، يحى المشد، مصطفى مشرفة، سعيد السيد بدير، وكلهم جزء من صورة الكرامة المصرية.
حذاء شامبليون ليس مجرد عمل فنى أو تمثال مُسيء! ولكنه رسالة سرمدية من القهر والإهانة تحملناها ونتحملها عبر عقود، وتظهر صورها وعواقبها وتداعياتها فى زخم من الشخصيات والسلوكيات والمفاهيم التى نُمتحن بها. الموضوع ليس غضب شعبى بسبب فيديو تم نشره على «يوتيوب» منذ 2012 أعقبه سيل من المقالات والبوستات فى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى، فبث فيديو وصور شامبليون على الإنترنت هو كشف عن سرمدية معنى وصور وأشكال للإهانة، والاستبداد، والاستعلاء السياسى، والثقافى. على مر التاريخ والمناضل المصرى – سياسيا، عسكريا، ثقافيا، علميا - يُعاقَب دائمًا لأنه رفع رأس مصر عاليًا! فالبُعد الحقيقى لقضية تمثال شامبليون 1875 هو ليس فقط فى وجود الكرامة المصرية، ولكن فى الوعى بها والتصدى لها، واستحضار التاريخ كدروس متباعدة ظهر فيها شبح الحذاء الشهير!
تمثال شامبليون ليس مجرد أثر فنى، بل هو وثيقة بصرية تُكمل مأساة محمد فريد ورفاقه! فكلاهما يُظهر كيف استُهين بكرامة المصرى، سواء كان زعيمًا معاصرًا أو ملكا قديمًا! ولكن الفارق أن رأس الملك فى التمثال ظل صامتًا مُشجعا ورثة البارتولديين على تطوير الدعس، بينما ظل قلب محمد فريد يهتف حتى آخر أنفاسه «مصر أولًا… والكرامة فوق كل شيء».
إن حل قضية تمثال شامبليون 1875 فى 2025 سيكون اللبنة الأولى فى صرح رفع رأس الكرامة المصرية، وإنعاشًا لوعيها الجمعى المحتضر، من العلاج الفاسد والتبعية المدروسة والدعس الخبير.
* محامى وكاتب مصرى
