خواطر مواطن مهموم 305

الحقيقة التى يفترض أنها تفرض نفسها لأنها جلية واضحة هى أن أوكرانيا دولة ضحية مظلومة تعرضت وتتعرض لعدوان وحشى من جار يرى أنها من ممتلكاته

توفيق اكليمندوس
Ad

فى المسألة الروسية - الأوكرانية من زاوية مصرية (2)

 أود أن أكرر أن هذه السلسلة لا ترمى إلى التقدم بتوصيات لصاحب القرار، وأقول.. فى سجل أى دولة من الدول الكبرى الحالية، أو أى من القوى الاستعمارية السابقة، ما يدينها، وجرائم بشعة ومشينة، ولا تستطيع مصر - ولا أى دولة أخرى بما فيها الولايات المتحدة- رسم سياساتها تجاه الدول الأخرى على أساس نصاعة تاريخها ومدى خلوّه من الفظائع.

ولكن ضرورة تغليب مصالح مصر أمر لا يقتضى قراءة خاطئة مزورة للتاريخ، والتقارب مع دولة لا يقتضى تبنى أكاذيبها ولا التصديق على الخطوط العريضة لروايتها الوطنية الكبرى، وقلب الحقائق أمر بالغ الخطورة لأنه مفسد للوعى، ولأنه يحول دون فهم مدركات الفاعلين الآخرين، ولأنه يكرس ويبث فهما خاطئا لما هو ممكن وما هو غير ممكن، وهناك فارق بين رفض للواقع قائم على فهمه ورفض للواقع قائم على تهيؤات.

الحقيقة التى يفترض أنها تفرض نفسها لأنها جلية واضحة هى أن أوكرانيا دولة ضحية، مظلومة، تعرضت وتتعرض لعدوان وحشى من جار يرى أنها من ممتلكاته، وأن هويتها مصطنعة ويجب محوها، وأنها لا حق لها فى الحياة إلا تحت حذائه.

لا أقول إنها دولة مثالية، ولا أنه شعب دون سلبيات، ولا أن خطاب قيادتها دائما موفق، ولكن الرغبة فى الحياة ليست خطيئة، وطلب الاستقلال والنضال من أجل المحافظة عليه ليسا من الكبائر، بل خط إستراتيجى وخيار وجودى يستحقان الثناء والاقتداء به. 

وعندما أقول هذا لا أروج لأجندة غربية، بالعكس فإننى غاضب منهم غضبا لا أنجح فى كتمانه، وإنى لشديد الانتقاد لقيادات الغرب، بدءا من الرئيسين كلينتون وأوباما والمستشارة الألمانية ميركل، وصولا إلى الرئيس ترامب والقادة الأوروبيين الحاليين، ومرورا على الرئيس بايدن. تناسى الرئيس أوباما أن سلفه الرئيس كلينتون حث أوكرانيا على التنازل عن الأسلحة النووية الموجودة على أرضها، مقابل "تطمينات" و"ضمانات" لسلامات أراضيها وأمنها، ولم يحترم كلمة الولايات المتحدة، ولم يحرك ساكنا عندما اعتدت روسيا على أوكرانيا واستولت على القرم وأرسلت قوات فى الدونباس. واكتفى بتصريح "أهبل" يقول ما معناه إن روسيا قوة إقليمية لا تهم كثيرا فى المشهد الدولى الإجمالى، أما المستشارة الألمانية ميركل - ويحتاج حصاد حكمها إلى إعادة تقييم لكم الأخطاء الجسيمة التى ارتكبتها - فهى واصلت توثيق التعاون مع روسيا فى مجال الطاقة بعد هذا العدوان ومع استمراره، ولم تفكر فى أمن الطاقة لبلادها، ولم تخصص ما هو ضرورى لبناء جيش أو لتحديث البنية التحتية.

ويستطيع المرء أن يخصص عشرات الصفحات فى تقييم المساعدات العسكرية التى قدمتها إدارة بايدن لأوكرانيا، أقر أن هذه المساعدات سمحت لأوكرانيا بالصمود، وبتحقيق عدد من النجاحات، ولكن هذه المساعدات دعمت ذراع أوكرانيا، وشلت ذراعا أخرى، فباتت أوكرانيا وكأنها ملاكم من الوزن الخفيف يصارع ملاكما من الوزن فوق الثقيل، ويداه - يدا المصارع خفيف الوزن- مغلولة مقيدة. ظلت الولايات المتحدة تتردد قبل أن ترسل أسلحة متطورة، وتتأخر فى تسليمها، وتضع قيودا "عبيطة" على استخدامها، خوفا من أى تصعيد يؤدى إلى أزمة نووية. يقول مستشار الأمن القومى السابق جيك سوليفان فى الدفاع عن أدائه إن حدود قدرات الصناعات العسكرية الأمريكية هى التى قيدت مساعداته، ولكن هذا صحيح فى بعض الأحوال وخطأ فى غيرها، ولا يفسر التباطؤ الشديد إلا نادرا. وهذا التباطؤ رفع من عدد ضحايا العدوان، ومنع أوكرانيا من استغلال الموقف فى نهاية 2022، ومنح لروسيا الوقت لتطوير أدائها وللتعلم من أخطائها، ولتحويل نفسها إلى آلة حربية مرعبة.

وبالمناسبة... السلاح الذى تسلمه الولايات المتحدة إلى إسرائيل هو سلاح لا يذهب إلى أوكرانيا، وخبراء كييف يعلمون هذا ويشجبون، ولكن العكس صحيح أيضا، السلاح الذى يسلم لأوكرانيا هو سلاح لا يذهب إلى إسرائيل، بل يوظف فى الدفاع عن قضية عادلة.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية