لم تنتهِ قضية كرامة مصر والمصريين ضد نسخة تمثال شامبليون 1875، وانضم له كل من البيروقراطية، البارتولديين، حسابات المصالح، صراع الأولويات، الصمت المريب. على مدار 46 مقالًا عرضت مختلف جوانب الموضوع بوصفه بدأ منذ 2012 حتى ديسمبر 2022 كشعور وطنى بالغضب وامتهان كرامة التاريخ المصرى والمصريين، لتجسيم التمثال للعالم الفرنسى واضعًا حذاءه على رأس تمثال لملك مصرى قديم (رمسيس الثاني/ أو تحتمس الثالث/ أو إخناتون). إلى أن قمت بتحويل مسار الشعور الوطنى لقضية قانونية متكاملة الأركان (الصفة/المصلحة/ الضرر/ السند القانوني/ المستندات/ منهجية الشكوى).
ورغم استمرار موات رد الفعل المناسب قانونيا وحكوميا، فإن القضية حية بوصفها ضررا مستمرا لا يُزال إلا بالتصدى لها بوعى قانونى وثقافى مستنير، يحترم العلاقات الدبلوماسية وينصف الحقائق التاريخية. من هنا لزم استمرار التذكير والعرض والتأصيل والمناقشة لأبعاد هذه القضية فى إطارها القانونى الثقافى الصحيح، مما يستدعى بيانًا بالأضرار الواقعة على مصر والمصريين، عن استمرار وضع التمثال بوضعه الحالى على الصعيدين الداخلى والخارجي، وتأثير ذلك على صورة مصر الدولية.
أولا – أضرار شعبية: إثارة مشاعر الغضب والاستياء بين المصريين، من خلال توثيق لردود فعل غاضبة بين المصريين فى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى منذ 2012، حيث اعتُبر إهانة للحضارة المصرية ورموزها. تأجيج الحس الوطنى وزيادة الدعوات لاستعادة الكرامة الوطنية حيث يؤدى التمثال لتعزيز المشاعر الوطنية والمطالبة باتخاذ إجراءات حازمة لحماية تاريخ مصر ورموزها من أى إساءة أو تشويه. واكب ذلك تأثير سلبى على احترام الشعب والدولة للدستور والشريعة الإسلامية، فدستور مصر وقوانينها يضمنان حماية التراث الثقافى والحضارى للبلاد وحفظ كرامة المواطن، كذلك فالشريعة الإسلامية تحث على احترام كرامة الإنسان والتراث الثقافي، وأى عمل يُعتبر إهانة لرموز ثقافية أو تاريخية لشعب مسلم، يُنظر إليه كمخالف لمبادئ الاحترام والكرامة التى تنادى بها الشريعة، ويسجل على الإدارة وجود قضية لها سبب وسند، ولم تتخذ موقفا منها.
ثانيا – إضرار الهوية الوطنية والوعى الجمعي: تأثير سلبى على الهوية الوطنية، فاستمرار وجود التمثال وعدم التصدى له بجدية كافية، يشعر الشباب المصرى بأن (أ) تاريخهم وحضارتهم مُهانة ومُستباحة، مما يُؤثر سلبًا على هويتهم الوطنية وإضعاف شعورهم بانتمائهم والفخر بتراثهم، بما يشيع روح السلبية وفوقية وتميز فرنسا والغرب (ب) مشاعر الغضب والإحباط التى تجتاحهم لوجوده، لا تصادف دعمًا كافيًا من الدولة، بما يضعف من صورة الإدارة لديهم وتفاعلهم معها (ج) التمثال يُسهم بتكوين صورة نمطية سلبية باللاوعى الجماعى للمصريين، ويُشعرهم بالانتقاص سواء فى الجيل الحالى أو الأجيال المتعاقبة، بما يمكن أن يحقق مشاعر الدونية الثقافية، لتكون النتيجة الحتمية تدنى مستوى الوعى الثقافى للمجتمع، لإضعاف احترام الشعب وبخاصة الشباب للتراث الثقافى والتاريخى فى مصر وقدرة الدولة على حمايته. تأثير سلبى على مفهوم القضايا الوطنية المرتبطة بالكرامة والقيم الأخلاقية: استمرار التمثال فى ظل الأضرار السابقة، وعدم التصدى له بموضوعية جادة ومدروسة، وتجاهل أثره الحقيقى فى المصريين وبخاصة الشباب والأجيال القادمة، وإضاعة فرصة تأسيس موقف قانونى حقيقى لإقصائه، يُفرغ الوعى الجمعى المصرى من أهمية وجود واثبات قضايا القيم الوطنية والدفاع عنها. فقضية تمثال شامبليون لا تقل عن الاستعمار الإنجليزى لمصر، وتحكيم طابا، وهضبة الأهرام، وسد النهضة. فى غياب التوعية العامة بالموضوع، بمنهجيات محترفة ومدروسة كقضية وطنية حقيقية تخترق أضرارها الوعى الجمعى المصري، ما يُخلى الساحة أمام السطحية والجهل والسلبيات، لتحتل اهتمام ومشاعر وتوجهات المصريين، بما يضعف إنتاجيتهم ومشاركتهم للدولة فى دورها المجتمعي.
الأضرار الخارجية - تشويه الرموز التاريخية عالميا: عرض تمثال شامبليون فى السوربون بباريس واضعًا قدمه على رأس ملك مصرى عظيم، يُعتبر تقليلًا من قيمة ومكانة الملوك القدماء، المؤسسين لواحدة من أعرق الحضارات فى التاريخ الإنساني. هذا التصوير يُشوّه الرموز التاريخية المصرية ويُقلل من احترامها فى عيون المصريين أنفسهم والعالم بالتبعية. الصورة الذهنية التى يقدمها التمثال للسائحين أو زوار مصر – وبخاصة الفرنسيون والأوربيون، تُترجم فى استغلالهم للمعنى الحرفى لوضعية الحذاء على الرأس الملكى العظيم بما يظهر فى تعاملاتهم المحلية، وقبول المصريين لذلك لاختراق هويتهم الوطنية، ولو لم يعلموا بوجود التمثال أو رمزيته أو أضراره. أكثر من ذلك، فاستمرار وجود التمثال بوضعه الحالى قد يُضعف موقف مصر فى المفاوضات الدولية المتعلقة بحماية كرامتها وتراثها الثقافي. إذ قد يُفسر هذا الوضع بأنه تقصير من الجانب المصرى فى الدفاع عن رموزه الحضارية والتراثية، مما قد يُقلل من مصداقية مصر فى المطالبة باحترام تاريخها وثقافتها، وحقها لاستعادة آثارها المنهوبة.
منذ 2014، تحقق مصر تقدمًا ملحوظًا بمجالات التسليح والتنمية، مما أسهم ببناء صورة ذهنية جديدة لمصر كدولة قوية ومزدهرة. ومع ذلك، فإن استمرار وجود التمثال قد يُقوض أو يضعف هذه الصورة، بتجسيده عدم قدرة مصر على حماية تراثها الثقافى من التعديات الخارجية، مما قد يُضعف من صورتها كدولة ذات سيادة وقوة! بل قد تستغل بعض الجهات استمرار وجود التمثال، لتعزيز روايات مضادة تُشكك بقدرة مصر على حماية تراثها، مما يؤثر على صورتها كدولة قادرة على الدفاع عن مصالحها ومصالح شعوب المنطقة. يضاف لذلك فى الوقت الذى تلعب فيه مصر دور الوسيط الفعّال فى أزمة غزة – فى ضوء المستجدات السياسية العالمية – قد يُنظر لعدم قدرتها على معالجة قضية التمثال، كضعف بموقفها الدبلوماسي، مما قد يؤثر على مصداقيتها كقوة إقليمية، وهو ما يُمثل تحديًا لصورة مصر الحديثة وجهودها لتعزيز هويتها الوطنية وحماية تراثها الثقافي، ويضعف مواقفها التفاوضية، إذ قد يُستغل هذا التمثال كوسيلة للضغط عليها بالمفاوضات الدولية، حيث يُظهر عدم احترام لتراثها، مما قد يُضعف موقفها التفاوضى بقضايا إقليمية ودولية.
الأضرار الدبلوماسية والعلاقات الفرنسية: خلط الصورة الذهنية عالميا لعلاقة مصر وتراثها وحضارتها بفرنسا، بفرض صورة خاطئة عند الجمهور الدولى تعزز الصور النمطية السلبية عن مصر، مما يُؤثر على صورتها فى المجتمع الدولي! وبدلاً من تصوير شامبليون كشخص أسهم – ولم يتفرد – فى فك رموز اللغة المصرية القديمة بإجلال واحترام للحضارة التى ساعد فى كشفها، يُظهره التمثال (كصورة صحيحة فى صورة ومعنى غير صحيح)، بوضعية تُعبّر عن التفوق والهيمنة، مما يُسيء تفسير إنجازه العلمى ويُحوّله لرمز للغطرسة والعنصرية الثقافية غير المستحق لها. يظهر ذلك فى تأثير سلبى على تعامل الدبلوماسية المصرية فى فرنسا إما: (أ) بقبول الأمر الواقع وتبنى وجهة النظر والتميز الفرنسى كواقع تاريخى وفنى ولو مغلوطًا، ونقل ذلك للإدارة المصرية بما ينعكس فى المعاملات والمفاوضات بشأنه (ب) أو بتسطيح، ورفض، أو عرقلة أى محاولات لحل الموضوع أو مناقشته أو تصعيده رسميا، بما يسهم فى إضعاف الجانب المصرى وينعكس على أى محاولات شعبية لمناقشة أو تصعيد الملف رسميا. على صعيد آخر، فعدم استجابة الجانب الفرنسى للمطالب المصرية بإقصاء التمثال، يُعزز شعور المصريين بالظلم والتهميش، وكأن مطالبهم المشروعة لا تُؤخذ بعين الاعتبار، حيث يؤدى التعنت الفرنسى بهذا الموضوع لتدهور صورة فرنسا كدولة تحترم الثقافات الأخرى، مما يؤثر على مكانتها الدولية وعلاقاتها مع الدول الأخرى.
ثقافيا وقانونا، فاستمرار فرنسا فى الاحتفاظ بالتمثال بوضعه الحالى يُمثل خطأً ثقافيًا وأخلاقيًا، يخالف مبادئ الثورة الفرنسية ذاتها، وقانونى حماية التراث والبيئة البصرية الفرنسيين، والإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والدستور المصري، وقوانين اليونسكو والاتحاد الأوروبي. ويُلحق أضرارًا متعددة بمصر على المستويات الأدبية، المادية، والدولية، بقضية مُثبتة الأركان ولا تتصدى لها مصر بالصورة الصحيحة لاستعادة كرامتها الوطنية والثقافية. خاصة أن استمرار وجود التمثال، يُعتبر رمزًا للعنصرية المبطنة والتفوق الثقافى الفرنسى على الحضارة المصرية، مما يعكس رؤية استعمارية قديمة تُظهر سيطرة الثقافة الفرنسية على التراث المصرى حتى الآن. وهو ما ثبت من التصريح الرسمى للسفير “ستيفان روماتيه” 2019 بحضور وزيرى الثقافة والآثار المصريين (أن التمثال يعبر عن الروابط التى تربط مصر بفرنسا وهو هناك منذ 120 عاما، وسيظل 120 عاما دليلا على المناخ الثقافي)!
الأضرار حقيقية، موضوعية، مادية، ثقافية، تاريخية، سياسية، وجميعها واقعة ومحققة، تحقق أركان المسؤولية الفنية التقصيرية للنحات أوجست بارتولدى عن ثأره القديم من الخديوى إسماعيل، كمكونات لقضية مصر ضد التمثال وليس فرنسا العظيمة. فالخصومة ليست مع فرنسا، بل مع رمزية محددة لعمل فنى يعارض مبادئ العدالة والكرامة، وإن غدا لناظره لقريب!
* محامى وكاتب مصرى
