السباق التقني والرسوم الجمركية يعيدان رسم خريطة الصناعة العالمية

جاءت نتائج تويوتا للنصف الأول من عام 2025 لتؤكد قدرتها على الثبات فى وجه العواصف

سيارات ذاتية القيادة
Ad

تشهد صناعة السيارات العالمية مرحلة غير مسبوقة من التحولات العميقة، حيث تتقاطع فيها الابتكارات التكنولوجية المتسارعة مع تقلبات السياسات التجارية، وسط صعود لافت للعملاق الصينى الذى بات يفرض قواعد جديدة فى ساحة المنافسة، فهذه المرحلة، التى يمكن وصفها بأنها “منعطف تاريخي”، تُعيد تشكيل ملامح الصناعة وتضع اللاعبين التقليديين أمام اختبارات حقيقية للبقاء والريادة.

وفى خضم هذا المشهد المتغير، جاءت نتائج تويوتا للنصف الأول من عام 2025 لتؤكد قدرتها على الثبات فى وجه العواصف، فقد سجلت الشركة اليابانية أعلى مبيعات عالمية فى تاريخها، مستفيدة من استراتيجيتها القائمة على المزج بين الكفاءة فى السيارات الهجينة والأسعار التنافسية، إلى جانب استثماراتها المتزايدة فى المركبات المعرفة بالبرمجيات (SDVs)، والتى باتت تشكل محورًا أساسيًا فى صناعة المستقبل.

فى المقابل، واجهت شركة Tesla ضربة موجعة هذا الأسبوع، بعد أن أصدرت هيئة محلفين فى فلوريدا حكمًا يُحمّلها جزءً من المسؤولية عن حادث مميت وقع أثناء تفعيل نظام القيادة الذاتية Autopilot، والذى ترتب عليه غرامة بقيمة 243 مليون دولار، وهو ما أعاد فتح النقاش حول مدى نضج هذه التقنيات ومدى جاهزيتها للانتشار الواسع، خاصة فى ظل تسويق الشركة لها باعتبارها قلب استراتيجيتها التقنية.

أما جنرال موتورز، فقد اختارت المضى قدمًا فى ترسيخ التحول الرقمى داخل مصانعها، حيث أعلنت عن توسيع استخدام الذكاء الاصطناعى فى خطوط الإنتاج، لا سيما فى مصنع “Factory Zero” فى ديترويت، وهذه الخطوة تمثل ملامح ما يُعرف بالثورة الصناعية الرابعة، إذ يُستخدم الذكاء الاصطناعى ليس فقط لتحسين الكفاءة التشغيلية، بل أيضًا لتحليل بيانات المستهلكين والتنبؤ بالأعطال ورفع مرونة سلاسل التوريد.

وعلى صعيد السياسات الدولية، شهدت الأسابيع الأخيرة تطورين متضادين، يعكسان هشاشة النظام التجارى العالمي، فمن جهة، توصّل الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة إلى اتفاق لتخفيض الرسوم الجمركية إلى %15 مما يمثل انفراجة مؤقتة فى علاقاتهما التجارية، ومن جهة أخرى، فجّر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مفاجأة بإصدار أمر تنفيذى بفرض رسوم جمركية جديدة على صادرات 68 دولة، تصل نسبتها إلى %50 مما يُنذر باضطرابات إضافية فى سلاسل الإمداد.

فى الشرق، تواصل الصين تعزيز موقعها كمحور هام فى مستقبل صناعة السيارات، فقد أعلنت شركة GAC عن إطلاق استراتيجيتها العالمية الجديدة “One GAC 2.0”، بينما حققت شركة WeRide تقدمًا غير مسبوق فى مجال المركبات ذاتية القيادة، حيث أطلقت خطوط حافلات ذاتية التشغيل فى قوانغتشو، ودخلت أسواق الخليج بشراكات استراتيجية، إلى جانب حصولها على تراخيص تشغيل كاملة فى الصين وفرنسا لمركبات Robotaxi.

وهذا التوسع الصينى السريع يشير إلى تحوّل موازين القوى، مع انتقال الريادة التقنية من الغرب إلى الشرق، مدعومًا بقدرات تنظيمية وتمويلية كبيرة داخل السوق الصينية.

فى موازاة ذلك، تتسارع خطى الشركات الكبرى نحو تطوير المركبات المعرفة بالبرمجيات، فى ظل تقديرات تشير إلى أن حجم هذا السوق قد يصل إلى 600 مليار دولار بحلول 2030.

وتعمل شركات مثل Toyota على دمج منصات برمجية جديدة مثل “Arene” فى طرازاتها، ما يتيح إمكانات تحديث فورى للنظم الإلكترونية عبر الإنترنت، ويعيد صياغة طريقة تصميم وإنتاج السيارات.

ولكن هذا التحول الرقمى لا يخلو من المخاطر، حيث ظهرت مؤخرًا ثغرات أمنية حرجة، من بينها اختراق نظم سيارات باستخدام رقم الشاسيه فقط، كما حدث مع طراز Nissan Leaf، ودفع ذلك الشركات إلى تكثيف جهودها للامتثال لمعايير الأمن السيبرانى الدولية، مثل ISO/SAE 21434 وUNR 155.

وفى سياق متصل، أعلنت شركة كيا عن استدعاء أكثر من 201 ألف سيارة من طراز Telluride فى السوق الأمريكية بسبب خلل فى تثبيت شرائط تزيين الأبواب، مما يُعد تحديًا لمصداقيتها فى وقت تسعى فيه لتعزيز حصتها فى أكبر أسواق العالم.

أوروبا بدورها لا تمر بأفضل حالاتها، فشركات كبرى مثل Volkswagen وStellantis تواجهان ضغوطًا متزايدة نتيجة تشديد السياسات البيئية، وتباطؤ الطلب على السيارات الكهربائية، بالتوازى مع التوسع الصينى الذى يزاحمها بقوة على أسواقها التقليدية، ووصفت صحيفة وول ستريت جورنال الوضع بأنه “نهاية دورة فائقة دامت ثلاثة عقود”، فى إشارة إلى احتمالات دخول الصناعة الأوروبية فى طور انكماش طويل.

وفى معرض GIIAS 2025 الذى احتضنته إندونيسيا بمشاركة أكثر من 60 علامة تجارية عالمية، بدت ملامح المستقبل واضحة ممثلة فى الكهرباء، والبرمجيات، والذكاء الاصطناعي، والمدن الذكية، وبذلك تكرّس إندونيسيا موقعها كمنصة استراتيجية لصناعة السيارات فى جنوب شرق آسيا.

وفى ضوء كل هذه التطورات، يتضح أن صناعة السيارات تدخل مرحلة عنوانها: البقاء للأسرع تكيفًا، فالذكاء الاصطناعى لم يعد مجرد ميزة تنافسية بل ضرورة تشغيلية، والصين لم تعد فقط مصنعًا للعالم، بل مختبرًا لتقنيات المستقبل.

وبينما تتغير قواعد اللعبة، يصبح البقاء فى السباق مرهونًا بامتلاك أفضل خوارزمية، وأقوى سلاسل توريد، وأعلى درجات التأهب للتهديدات الرقمية، فالمحرك لم يعد هو القلب النابض للسيارة، بل البرمجة، ومن لا يفهم ذلك سيتوقف عاجلًا أو آجلًا على جانب الطريق.