فى السنوات الأخيرة، شهدت أفريقيا طفرة غير مسبوقة فى التحول الرقمى، خصوصًا فى قطاع المدفوعات المالية والخدمات الرقمية، مما أتاح فرصًا هائلة للشمول المالى والتنمية الاقتصادية.
لكن هذه الثورة الرقمية تواجه تحديات جسيمة تتمثل فى ارتفاع معدلات الاحتيال الرقمى والجرائم السيبرانية، التى تهدد ثقة المستخدمين واستقرار الأسواق المالية الناشئة فى القارة.
من نيجيريا إلى كينيا، ومن جنوب أفريقيا إلى مصر، تتجلى المخاطر التى تنمو مع تسارع تبنى التكنولوجيا المالية، مما يحتم اتخاذ خطوات حاسمة لتعزيز الأمن السيبرانى وحماية المستخدمين.
يُظهر القطاع المالى الرقمى فى أفريقيا حالة من النمو السريع، لكنه فى الوقت ذاته يعانى من تهديدات متزايدة للهجمات السيبرانية.
ففى ظل بيئة تنافسية تسرع من طرح المنتجات الرقمية، غالبًا ما يُهمل الأمن السيبرانى فى مراحل التطوير المبكرة، مما يجعل المؤسسات هدفًا سهلاً للمخترقين.
وكشف تقرير الإنتربول لعام 2024 عن زيادة بنسبة %23 فى الهجمات السيبرانية على المؤسسات الأفريقية، تشمل هجمات معقدة تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعى، إضافة إلى برمجيات الفدية التى باتت شائعة بشكل مقلق.
فى نيجيريا أكبر اقتصاد فى أفريقيا، بلغت خسائر القطاع المصرفى من الاحتيال الرقمى مئات الملايين من الدولارات، فيما شهدت جنوب أفريقيا تصاعدًا فى حوادث الاحتيال بنسبة تفوق %45.
هذه الأرقام تعكس حجم التحديات التى تواجه البنية التحتية المالية فى أفريقيا، وتوضح مدى الحاجة الملحة لتبنى استراتيجيات أمنية متقدمة ومستدامة.
إلى جانب ذلك، يبرز الاحتيال كتهديد مباشر لثورة المدفوعات الرقمية التى تحاول أفريقيا تحقيقها، ومع انتشار أنظمة الدفع الفورى التى جعلت العمليات المالية أكثر سرعة وسهولة، استغل المحتالون انخفاض مستوى الثقافة الرقمية بين المستخدمين الجدد، خصوصًا فى المناطق الريفية والمهمشة، لإقناعهم بإفشاء بيانات حساسة أو إجراء معاملات دون وعى كامل.
وقد أدى ذلك إلى ارتفاع ملحوظ فى نشاطات الاحتيال عبر الهواتف المحمولة تجاوزت معدل نمو المعاملات نفسها، مما يعكس فجوة أمنية كبيرة لا يمكن تجاهلها.
ورغم أن مخاطر الاحتيال الرقمى تشكل تحديًا حقيقيًا أمام نمو الاقتصاد الرقمى فى أفريقيا، لكن بالإمكان تحويل هذه التحديات إلى فرص عبر اعتماد استراتيجيات أمنية متكاملة، ورفع مستوى الوعى، وتنظيم بيئة التكنولوجيا المالية بشكل أكثر فاعلية، فنجاح الثورة الرقمية فى أفريقيا يتوقف بشكل مباشر على قدرة الحكومات والشركات والمجتمع على حماية مستخدميها وضمان بيئة رقمية آمنة ومستقرة.
نمو سريع يصطدم بمخاطر الأمن السيبرانى
تشهد أفريقيا فى السنوات الأخيرة تحوّلًا جذريًا فى مجال التكنولوجيا المالية والخدمات المصرفية الرقمية، مع توسع ملحوظ فى استخدام الحلول الرقمية التى تسهل الوصول إلى الخدمات المالية لملايين المستخدمين.
ويُعد هذا التوسع مؤشرًا إيجابيًا على شمول مالى أوسع واقتصاد رقمى متنامٍ، غير أن هذا النمو يحمل فى طياته تحديات كبيرة، تتمثل فى تزايد مخاطر الاحتيال والهجمات السيبرانية التى تستهدف المؤسسات المالية وشركات التكنولوجيا على حد سواء.
بحسب صحيفة “ بيزنس داى” النيجيرية، شهدت القارة زيادة ملحوظة فى الهجمات السيبرانية، حيث ارتفعت هذه الهجمات بنسبة %23 مقارنة بالعام السابق، ما يعكس مدى تنوع وتعقيد التهديدات، والتى تتراوح بين عمليات الاحتيال المدعومة بالذكاء الاصطناعى واختراق قواعد البيانات الحساسة.
وفى دول مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، وصلت الخسائر المالية الناتجة عن عمليات الاحتيال الرقمى إلى مبالغ ضخمة، إذ بلغت خسائر القطاع المصرفى فى نيجيريا وحدها 762 مليون دولار خلال عام 2022، مقارنة مع 544 مليون دولار فى العام الذى سبقه.
وفى نيجيريا، التى تعد أكبر اقتصاد فى أفريقيا وأحد مراكز التمويل الرقمى تعانى من موجة متصاعدة من الجرائم الرقمية، وكشف البنك المركزى النيجيرى أن %70 من الخسائر المالية المرتبطة بالجرائم الاقتصادية تُعزى إلى منصات رقمية، معظمها خارج الرقابة التنظيمية، وهو ما يبرز حجم الثغرات فى الاقتصاد الرقمى.
ومع ارتفاع قيمة معاملات العملات المشفرة، استغلت العصابات الإجرامية هذا النمو السريع عبر مخططات استثمارية احتيالية تتخفى خلف أصول رقمية تبدو شرعية، مما يهدد ليس فقط أموال الأفراد بل ويضع استقرار النظام المالى برمته على المحك.
التحذيرات المستمرة من الجهات التنظيمية تؤكد أن هذه التحديات قد تؤدى إلى فقدان ثقة المستثمرين والجمهور، إضافة إلى آثار اجتماعية واقتصادية عميقة قد تمتد إلى المجتمع بأسره.
يُضاف إلى ذلك أن أغلب المؤسسات لا تعطى الأولوية الكافية للأمن السيبرانى خلال مراحل تطوير المنتجات والخدمات الجديدة، حيث يفضل قادة الأعمال التركيز على السرعة فى الطرح إلى السوق على حساب الحماية الأمنية، ما يجعل المؤسسات أكثر عرضة للهجمات، وهذا ما تؤكده الإحصائيات التى تشير إلى أن مؤسسة واحدة من كل 19 مؤسسة فى أفريقيا تتعرض لهجمات ببرامج الفدية أسبوعيًا، وهو معدل أعلى بكثير من معدلات التعرض فى أوروبا وأمريكا الشمالية.
وتُعدّ الاستراتيجية الأمنية المعروفة بـ “التحول إلى اليسار” والتى تعنى دمج الأمن والاستباقية فى المراحل المبكرة من تطوير الأنظمة، إحدى الطرق الفعالة لتقليل المخاطر، إذ يساعد هذا النهج المؤسسات على تبنى ممارسات وقائية مستمرة تشمل الحوكمة الأمنية، وزيادة وعى الموظفين، ومراقبة الثغرات قبل استغلالها من قبل المهاجمين، وفى المقابل، يظل “التحول إلى اليمين” الذى يعتمد على اختبار الأمن بعد إنتاج الأنظمة خطوة ضرورية ولكنها غير كافية بمفردها.
فى ظل هذا الواقع المتغير، لابد من تبنى منهج شامل متعدد المستويات، يتضمن استثمارًا مكثفًا فى استخبارات التهديدات، والقدرة على مراقبتها والاستجابة السريعة، مع التركيز على التدريب والتوعية المستمرة لجميع العاملين فى القطاع المالى الرقمى، إذ أن التهديدات الإلكترونية لا تهدد فقط أموال العملاء، بل تضع استقرار المؤسسات المالية برمتها على المحك، وقد تؤدى هجمة سيبرانية ناجحة إلى أضرار مالية وسمعة لا تُمحى بسهولة.
يبقى التحدى الأكبر هو تحقيق توازن دقيق بين التطور السريع والتوسع فى الخدمات الرقمية، وبين تأمينها بما يضمن الثقة والاستدامة فى القطاع المالى الرقمى الأفريقى، الذى يمثّل ركيزة أساسية لتحقيق مستقبل اقتصادى رقمى مستدام فى القارة.
نيجيريا.. ارتفاع قياسى لجرائم الخداع الإلكترونى
شهدت نيجيريا تصاعدًا ملحوظًا فى جرائم الاحتيال الرقمى، وهو ما أثار قلق البنك المركزى النيجيرى، الذى أعلن عن زيادة حادة بنسبة %45 فى قضايا الاحتيال المالى الرقمى خلال العام الماضى، وأكد البنك أن %70 من الخسائر المالية الناجمة عن الجرائم الاقتصادية تُعزى إلى منصات رقمية، كثير منها يعمل خارج إطار الرقابة التنظيمية، مما يشير إلى وجود ثغرات خطيرة فى النظام الرقمى للبلاد.
وبحسب تقرير نشره موقع Business Insider Africa، تأتى هذه التطورات فى ظل طفرة واسعة فى التمويل الرقمى وتوسع الشمول المالى فى نيجيريا، حيث تجاوز حجم معاملات العملات المشفرة 56 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2022 إلى يونيو 2023، ما يجعل نيجيريا رائدة فى التمويل الرقمى بالقارة. لكن هذا النمو السريع استغله المحتالون بشكل كبير، حيث كشفت الجهات المختصة عن أكثر من 30 مخططًا استثماريًا احتياليًا تستخدم الأصول الرقمية كواجهة لإغراء المستثمرين.
ويشكل هذا الاحتيال خطرًا ليس فقط على أموال الأفراد، بل يهدد أيضًا استقرار النظام المالى فى البلاد، فقد حذر مسؤولون من هيئة الأوراق المالية والبورصات ومن الوكالة الوطنية للتوجيه من أن هذه العمليات الاحتيالية تُضعف الثقة فى السوق وتترك آثارًا طويلة الأمد على حياة المواطنين العاديين، حيث إن كل خسارة مالية قد تعنى تعطيل مشاريع صغيرة، أو حرمان أطفال من التعليم، أو فقدان مصدر رزق.
فى مواجهة هذه التحديات، أطلقت الوكالة الوطنية للتوجيه حملة توعية وطنية تستهدف تغيير عقلية السعى وراء الثراء السريع، والتى تعد واحدة من أهم العوامل التى تجعل الأفراد عرضة للوقوع فى فخ الاحتيال الرقمى.
وتدعو هذه الأزمة الرقمية إلى ضرورة تعزيز الرقابة التنظيمية على المنصات الرقمية، وتفعيل آليات حماية المستثمرين، إضافة إلى تعزيز الوعى والثقافة المالية بين المستخدمين لتقليل المخاطر وحماية الاقتصاد الرقمى النامى فى نيجيريا.
ثقة المستهلكين.. معركة لا يمكن خسارتها
فى خضم التحول الرقمى السريع الذى تشهده أفريقيا، أصبحت أنظمة المدفوعات الرقمية أحد أبرز العوامل التى تسهم فى دفع عجلة الشمول المالى وتعزيز النمو الاقتصادى، لكن مع ازدياد عدد المستخدمين الجدد، يواجه هذا القطاع تحديات كبيرة تتمثل فى ارتفاع معدلات الاحتيال التى تهدد ثقة المستهلكين وتعرقل التقدم، بحسب تقرير نشره موقع CIO Africa.
وتعد ثقة المستهلكين، العامل الحاسم الذى يحدد نجاح أو فشل الاقتصاد الرقمى فى القارة، فالمستهلكون الذين يتعرضون للاحتيال بلا حماية أو استجابة سريعة قد يتراجعون عن استخدام الخدمات الرقمية، مما يعيدهم إلى الاعتماد على النقد التقليدى ويحد من النمو الاقتصادى.
ويعانى العديد من مستخدمى خدمات الدفع الرقمية فى القارة من استغلال المحتالين لانخفاض مستوى الثقافة الرقمية لديهم، حيث يُقنعون بسهولة بمشاركة معلومات حساسة أو الموافقة على معاملات مالية لا يدركون تفاصيلها، ويبرز هذا الخطر بوجه خاص فى ظل التوسع الكبير لأنظمة الدفع الفورى (IPS) التى أحدثت نقلة نوعية فى طريقة إجراء المعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة حجم المعاملات الرقمية على نطاق واسع.
وتشير البيانات إلى أن عمليات الاحتيال عبر المعاملات التى تتم عبر الهاتف المحمول تنمو بشكل أسرع بكثير من معدل نمو المعاملات نفسها، إذ سجلت ارتفاعًا بنسبة %83 بين عامى 2019 و2020، مقارنة بنمو %38 فقط فى حجم المعاملات، وهذا التفاوت يسلط الضوء على ضعف التدابير الأمنية والتوعية اللازمة لحماية المستخدمين.
وقد أكد خبراء فى المجال أن الوقاية هى أفضل وسيلة لمكافحة الاحتيال، لكن من المهم أيضًا أن تتوفر آليات فعالة لاسترداد الحقوق المتضررة، حيث إن فقدان الثقة لدى المستخدمين بعد تعرضهم للاحتيال وعدم تمكنهم من استرجاع أموالهم قد يقوض بشكل كبير تطور المدفوعات الرقمية.
تتطلب مواجهة هذه التحديات تطبيق معايير أمنية صارمة ومتعددة المستويات تشمل التوعية المستمرة للمستخدمين حول مخاطر الاحتيال وطرق الحماية، إلى جانب بناء أنظمة فعالة لحل النزاعات والتعامل مع المعاملات غير المصرح بها بسرعة وكفاءة.
ومع هذا، يظل نظام الدفع الفورى حجر الزاوية فى الاقتصاد الرقمى الأفريقى، فهو يوفر إمكانية الوصول إلى خدمات مالية أسرع وأكثر شمولية لملايين الأشخاص، لكن استدامة هذا النمو تعتمد بشكل أساسى على اتخاذ إجراءات استباقية تعزز من أمان المعاملات الرقمية، دون التضحية بسهولة الاستخدام، لضمان بقاء المستخدمين فى قلب منظومة الثقة والابتكار الرقمى.
رغم هذه التحديات الكبيرة، تظل التوقعات بشأن مستقبل المدفوعات الرقمية فى أفريقيا إيجابية جدًا، فشركة ماستركارد، على سبيل المثال، تتوقع أن تتجاوز قيمة المدفوعات الرقمية فى القارة حاجز التريليون دولاربحلول عام 2030، مدفوعة بزيادة انتشار الإنترنت والشمول المالى.
ورغم تصاعد حالات الاحتيال، لا تزال ثقة المستهلكين قوية، حيث أظهر تقرير حديث أن نسبة كبيرة من مستخدمى المدفوعات الرقمية فى دول مثل كينيا ونيجيريا ومصر يعتزمون الاستمرار فى استخدامها.
مع ذلك، تبقى الحاجة ملحة لتطوير أنظمة أمان أكثر صلابة، وتعزيز وعى المستخدمين خاصة الشرائح الأكثر عرضة للمخاطر، مثل الفئات العمرية الأكبر سنًا، لضمان استدامة النمو الرقمى وحماية مستفيديه.
1.5 تريليون دولار.. قطاع الفرص والتحديات الخطيرة
يشهد قطاع المدفوعات الرقمية فى أفريقيا نموًا سريعًا ومتسارعًا، حيث من المتوقع أن يصل حجم المعاملات الرقمية إلى 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2030، بحسب تقرير لشركة ماستركارد، ورغم هذا التوسع الواعد، يواجه هذا القطاع تحديًا حقيقيًا يتمثل فى ارتفاع معدلات الاحتيال الرقمى، الذى يهدد ثقة المستخدمين ويشكل عقبة أمام تعميق الشمول المالى فى القارة.
وتُعزى الزيادة المتسارعة فى المدفوعات الرقمية إلى عوامل عدة منها الانتشار الواسع للإنترنت وتحسن الشمول المالى، إضافة إلى توسع اعتماد الشركات الصغيرة والمتوسطة على هذه الأنظمة فى عملياتها اليومية، ففى دول مثل نيجيريا وكينيا ومصر، تقبل الغالبية العظمى من هذه الشركات المدفوعات الرقمية، مما يعكس توجهًا واضحًا نحو الاقتصاد الرقمى، كما أن شركات التكنولوجيا المالية الناشئة فى أفريقيا استطاعت جذب استثمارات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، ما يعزز من استدامة هذا النمو.
إلا أن هذا النجاح يصاحبه ازدياد مقلق فى جرائم الاحتيال الرقمى، والتى تؤثر بشكل مباشر على المستخدمين والمؤسسات على حد سواء، ووفقًا لتقرير حديث صادر عن شركة فيزا، فقد تعرض %71 من الكينيين لعمليات احتيال عبر الإنترنت، وهى النسبة الأعلى بين الدول الإفريقية، تليها ساحل العاج ونيجيريا.
هذه المعدلات المرتفعة تعكس ضعف الوعى الرقمى لدى كثير من المستخدمين، خاصة كبار السن، الذين يقعون ضحية خدع مثل النقر على روابط مشبوهة أو الرد على رسائل نصية مزيفة.
ويتوقع أن يستمر المستخدمون فى التوجه إلى المدفوعات الرقمية خلال السنوات القادمة، مع توقعات بأن تصل نسبة الاستخدام فى كينيا إلى %90، تليها مصر، رغم المخاطر المستمرة، هذا يؤكد أن نجاح المدفوعات الرقمية فى أفريقيا مرتبط بشكل وثيق بمدى قدرة الجهات المعنية على مواجهة الاحتيال الرقمى بفعالية، عبر اعتماد معايير أمان صارمة وتكثيف حملات التوعية والتثقيف للمستخدمين.
ويمثل الاحتيال الرقمى تحديًا أساسيًا يفرض على صانعى القرار والشركات الرقمية تبنى حلول أمنية شاملة ومتطورة، للحفاظ على زخم نمو المدفوعات الرقمية وضمان استدامة الشمول المالى فى أفريقيا، مع حماية حقوق المستخدمين وبناء ثقة دائمة فى الاقتصاد الرقمى.
