رغم تصاعد الحديث الرسمى عن دعم ريادة الأعمال وتمكين الشباب، ما تزال أزمة التمويل فى مصر واحدة من أبرز العقبات أمام أصحاب الأفكار الطموحة. فعلى الورق، تبدو المنصات الحكومية مستعدة للدعم، لكن على أرض الواقع تُغلق الأبواب فى وجه من لا يمتلك “شبكة علاقات”، ويتركز التمويل غالبًا فى الشركات المرتبطة بالحاضنات أو دوائر صنع القرار، على حساب أفكار جديدة ذات جدوى حقيقية.
وفق تقرير «MAGNiTT» لعام 2022، شهدت مصر 160 صفقة تمويل تمثل نحو %26 من إجمالى صفقات المنطقة، بإجمالى 517 مليون دولار بزيادة طفيفة على 2021. لكن الأهم من الأرقام هو اتجاه التمويل؛ إذ تتركز الغالبية العظمى فى شركات مراحل النمو (Series A وما بعدها)، بينما تُترك مرحلة ما قبل التأسيس (Seed / Pre-seed) دون دعم كافٍ، رغم أن معظم المستثمرين يفضلون ضخ مبالغ صغيرة كاستثمار أولى محسوب.
نتيجة لذلك، يعتمد أغلب رواد الأعمال على التمويل الذاتى أو الدعم من المعارف الشخصية، فى حين يحصل أقل من %10 فقط على تمويل رسمى من البنوك أو الصناديق الحكومية.
وفى الفترة من يناير حتى مايو 2025، حصلت المشروعات الناشئة على تمويلات بقيمة 228 مليون دولار عبر 16 صفقة، بزيادة %130 على الفترة نفسها من العام السابق. لكن نصفها تقريبًا ذهب إلى شركتين فقط: MNT-Halan «94 مليون دولار» و«ناوي» (23 مليون دولار)، ما يعكس استمرار تركّز الأموال فى دائرة محدودة بدلًا من فتحها أمام أفكار جديدة.
حتى من يحاول التقدم للبرامج الحكومية يصطدم عادةً بجدار من التعقيد: نماذج طويلة، متطلبات معقدة، فترات انتظار مرهقة، ومراجعات لا تنتهي. وفى حال نجح فى الوصول للنهاية، غالبًا ما يكون التمويل الممنوح رمزيًا لا يكفى حتى لبناء نموذج أولي.
أما القطاع الخاص، فيميل إلى الاستثمار فى المشاريع “المضمونة” ذات العوائد السريعة، بينما تُترك الابتكارات غير التقليدية بلا تمويل لأنها أكثر مخاطرة.
ورغم الصورة القاتمة، فإن بعض المؤشرات الواردة فى تقارير دولية حديثة تؤكد أن السوق المصرية لا تزال تحتفظ بجاذبيتها كبيئة واعدة لريادة الأعمال، لكن مع تحولات جوهرية فى أولويات المستثمرين ونمط التمويل.
فبحسب تقرير “Seedstars Global” الصادر فى أبريل 2025، بدأت مصر تتحول من فورة النمو المبالغ فيها إلى ما يُعرف بـ”الابتكار المستدام”، حيث بات المستثمرون يفضلون الشركات التى تركز على الربحية والفعالية لا مجرد النمو السريع. أما تقرير “MAGNiTT” للنصف الأول من عام 2024 فيشير إلى أن التمويلات انخفضت بنسبة %75 مقارنة بعام 2022، لتسجل نحو 86 مليون دولار فقط، ورغم ذلك ارتفع عدد المستثمرين المحليين بنسبة %82 ما يعكس تزايد ثقة الداخل المصرى فى بيئته الريادية.
وفى تقرير صادر عن “Lucidity Insights”، تم التأكيد على أن مصر ما زالت تحتفظ بموقعها بين أفضل ثلاث بيئات ناشئة فى الشرق الأوسط وأفريقيا من حيث عدد الصفقات، لكن التحديات الاقتصادية مثل التضخم وتقلبات سعر الصرف أثّرت بشكل مباشر على قدرة الشركات الناشئة على الصمود والنمو. ورصد التقرير فجوة لافتة بين التمويل المتاح فى المراحل المبكرة وبين التمويل الذى يتجه فى معظمه نحو الشركات فى مراحل ما بعد التأسيس.
أما تقرير “Startup Genome – GSER 2024” فقد صنف القاهرة كثالث أفضل نظام بيئى لريادة الأعمال فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مؤكدًا تميز مصر فى ما يُعرف بـ”القيمة مقابل المال” (Bang for Buck)، أى قدرتها على تحويل تمويلات أقل إلى تأثير أعلى مقارنة بنظيراتها الإقليميّة.
ولعل التطور الأبرز هو إعلان جهاز تنمية المشروعات MSMEDA فى يونيو 2025 عن إطلاق إطار تنظيمى موحّد لتقارير الشركات الناشئة، بالتعاون مع منصة Visible.vc، بهدف تسهيل التقييم ومتابعة الأداء وتعزيز الشفافية فى علاقات المستثمرين مع رواد الأعمال. هذا التوجه الجديد قد يمثل خطوة إيجابية طال انتظارها إذا تم تطبيقه بشكل فعلى لا بيروقراطي.
المشكلة إذن ليست فى قلة المال، بل فى سوء توزيعه. نحن بحاجة إلى صناديق تمويل تقبل بالمخاطرة المحسوبة وتقدم مبالغ تبدأ من 50 إلى 100 ألف دولار للمشروعات الجادة، خصوصًا فى المحافظات. فلا يصح أن تبقى القاهرة والجيزة وحدهما عنوان ريادة الأعمال فى مصر. كما أننا بحاجة إلى آلية تقييم جديدة للجدارة الائتمانية لا تعتمد فقط على الضمانات العقارية، بل تأخذ فى الاعتبار الابتكار، والإبداع، والقدرة على التنفيذ.
كم من شركة حصلت على تمويل لمجرد امتلاكها العلاقات الصحيحة، لكنها انهارت سريعًا لافتقارها إلى نموذج عمل حقيقي. فالتمويل المبنى على العلاقات لا يصنع اقتصادًا تنافسيًا.
السؤال الأهم: ماذا نحتاج حقًا؟ إصلاح المنظومة التمويلية يبدأ من إعادة تعريف القواعد بدل التركيز على عدد الحاضنات أو ورش التدريب. الأهم هو النتائج:
● كم شركة انتقلت من مرحلة الفكرة إلى السوق؟
● كم شركة استطاعت التوسع من المحلية إلى الإقليمية؟
كما أننا بحاجة إلى منظومة تقييم شفافة، تدعم الأفكار بناءً على قوتها وقدرتها على التنفيذ، لا على أساس العلاقات أو الارتباط المؤسسي. ويجب على الإعلام أيضًا أن يسلّط الضوء على النماذج الملهمة القادمة من المحافظات أو من خلفيات غير تقليدية، لإثبات أن الابتكار ممكن خارج الدوائر التقليدية.
المشكلة ليست فى ندرة الأفكار، بل فى أن التمويل أصبح امتيازًا. وأقولها بوضوح: المال يجب أن يكون أداة تمكين لكل صاحب فكرة حقيقية، لا مكافأة على العلاقات. وإذا كنا نطمح إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار، فعلينا تحويل التمويل من شعارات رنانة إلى أدوات ملموسة تحدث فرقًا على أرض الواقع. عندها فقط، يصبح المال وقودًا للنمو لا حكرًا على النخبة.
كتب ـ محمد جرين:
* رائد أعمال والمدير التنفيذى لشركة رايت سوليوشنز للتطوير المؤسسى ودعم الابتكار وريادة الأعمال
