المخاطر المناخية تفرض واقعا جديدًا على النقل البحري والتغطيات التأمينية

العالم: الأحوال الجوية تدفع نحو تبنى الوقود الأخضر

نقل بحري
Ad

فى ظل تصاعد موجات التغير المناخى عالميًا، لم يعد قطاع النقل البحرى بمنأى عن تأثيرات الظواهر الجوية المتطرفة، التى ألقت بظلالها الثقيلة على حركة التجارة الدولية، والبنية التحتية للموانئ، وتكلفة التشغيل، وحتى صناعة التأمين البحرى.

فالعواصف وارتفاع مستوى سطح البحر، وتغير التيارات البحرية، لم تعد حوادث استثنائية، بل أصبحت أنماطًا متكررة تُحدث اضطرابات واسعة فى جداول الرحلات البحرية وتُعرّض السفن والبضائع لمخاطر متزايدة يصعب التنبؤ بها.

ويواجه قطاع التأمين البحرى فى مصر تحديات حقيقية فى مواكبة هذه التحولات المناخية، فى ظل نقص البيانات الدقيقة، وضعف النماذج الاكتوارية المحلية، واعتماد السوق على الوثائق التقليدية التى لا تقدم تغطيات مخصصة للمخاطر المناخية.

ورغم بعض المبادرات المحدودة من شركات محلية لتطوير منتجات تغطى التأخير أو الأضرار المناخية، فإن فجوة الحماية التأمينية لا تزال واسعة، وتستدعى تحركًا جماعيًا يشمل الجهات الرقابية، وشركات الإعادة، والمراكز البحثية.

وفى هذا السياق، أكد الدكتور ياسر العالم، العضو المنتدب لشركة إيجيبت لينك لوساطة التأمين، أن التغير المناخى ترك آثارًا ملحوظة على قطاع النقل البحرى خلال السنوات الأخيرة، موضحًا أن تلك الآثار تنوعت ما بين زيادة الظواهر الجوية المتطرفة مثل الأعاصير والعواصف والفيضانات، والتى تسببت فى تعطيل طرق الشحن، وارتفاع معدلات الحوادث.

وأشار إلى أن التغيير المناخى أدى إلى ارتفاع منسوب سطح البحر الذى أثر سلبًا على عدد كبير من الموانئ حول العالم، مما يستلزم استثمارات ضخمة لتحديث البنية التحتية.

وأضاف أن تغيرات التيارات البحرية واتجاهات الرياح أثرت بدورها على كفاءة استهلاك الوقود ومسارات الشحن، فضلًا عن تصاعد الضغوط التنظيمية من قبل جهات دولية، مثل المنظمة البحرية الدولية (IMO)، التى فرضت قيودًا على انبعاثات السفن، الأمر الذى دفع القطاع نحو تبنى تكنولوجيا وقود صديقة للبيئة.

وفيما يتعلق بالمخاطر التى تواجه السفن والشحنات، أوضح العالم أن أبرزها يشمل الطقس العنيف كالاعاصير، والتآكل الناتج عن زيادة الرطوبة ودرجات الحرارة، إضافة إلى فقد أو تلف الشحنات بسبب تقلبات الطقس أو تسرب المياه داخل الحاويات، مؤكدًا أن تلك المخاطر باتت أكثر تكرارًا وحدة، ما أدى إلى زيادة واضحة فى حجم التعويضات والتكاليف التشغيلية.

وأشار إلى أن السوق المصرية لا تزال فى مرحلة التقييم والحذر تجاه تقديم وثائق تأمين متخصصة فى تغطية مخاطر التغير المناخى، حيث إن الوثائق البحرية التقليدية (A وB وC) تغطى بعض تلك المخاطر ضمنيًا، دون أن تكون هناك تغطيات مخصصة بوضوح لهذا النوع من الأخطار. 

ومع ذلك، هناك اهتمام متزايد من بعض الشركات بإدراج بنود مرتبطة بالمخاطر المناخية، خاصة فى ظل التوجه العام من الهيئة العامة للرقابة المالية نحو دعم الابتكار فى منتجات التأمين الأخضر والمستدام.

وبخصوص التحديات التى تواجه شركات التأمين فى تسعير هذه النوعية من المخاطر، لفت إلى وجود عدة عقبات، أبرزها نقص البيانات المناخية الدقيقة محليًا، وعدم توافر نماذج اكتوارية متخصصة بالسوق المصرية، فضلا عن صعوبة تقييم الأثر المباشر لكل سفينة أو شحنة، وتفاوت جودة البيانات بين الموانئ، وهو ما يعيق بناء نماذج دقيقة. 

وأوضح أن شركات التأمين المحلية تعتمد حاليًا على نماذج مقدمة من شركات إعادة التأمين العالمية، مع الحاجة إلى شراكات بحثية لتطوير نماذج محلية أكثر ملاءمة.

وحول إمكانية الاستفادة من التجارب الدولية، أكد العالم أن هناك نماذج رائدة يمكن الاسترشاد بها، مثل التجربة البريطانية والاسكندنافية التى أدخلت تغطيات مخاطر الطقس ضمن الوثائق البحرية، وسوق “لويدز” فى لندن الذى طور نماذج تأمين بحرية متكاملة تأخذ فى الاعتبار المتغيرات المناخية، إضافة إلى تجارب سنغافورة واليابان فى استخدام الذكاء الاصطناعى لتحليل البيانات وتحسين التسعير.

وأوضح أن شركات إعادة التأمين تلعب دورًا محوريًا فى تغطية هذه النوعية من المخاطر، من خلال توفير الحماية ضد الخسائر الكبيرة والنادرة، والمساهمة فى تطوير النماذج الاكتوارية، وتقديم أدوات تحليل متقدمة.

وأشار إلى أن عددًا من شركات الإعادة العالمية الكبرى مثل Swiss Re وMunich Re أبدت استعدادًا فنيًا للعمل فى هذا المجال، لكن دخولها السوق المصرية يرتبط بتوافر بنية تشريعية داعمة، وتحسين مستوى البيانات، وبناء شراكات طويلة الأمد مع الشركات المحلية.

ولفت إلى أن التغير المناخى يمثل تهديدًا حقيقيًا لقطاع النقل البحرى، فى الوقت الذى تمتلك فيه السوق المصرية فرصة حقيقية لتطوير منتجات تأمينية مبتكرة مستندة إلى تجارب عالمية ناجحة. 

وشدد على أن تحقيق هذا الهدف يتطلب شراكة فعالة بين شركات التأمين، والجهات الرقابية، وشركات إعادة التأمين، والمراكز البحثية، لضمان الحماية الكافية للقطاع وتحقيق استدامتها.

ومن جانبه أكد أحمد إبراهيم، مدير وكالة أول بشركة الكويت للتأمين، أن قطاع النقل البحرى شهد خلال السنوات الأخيرة تحولات جذرية نتيجة لتسارع وتيرة التغيرات المناخية، مشيرًا إلى أن مصر، نظرًا لموقعها الاستراتيجى على البحرين الأحمر والمتوسط واحتضانها لقناة السويس، كانت من الدول الأكثر تأثرًا بهذه الظواهر، ما انعكس بشكل مباشر على الأنشطة البحرية وحركة التجارة الدولية.

وأوضح أن ارتفاع متوسط درجات الحرارة بنحو 1.1 درجة مئوية أدى إلى تسخين سطح مياه البحرين الأحمر والمتوسط، الأمر الذى أثر على الأنظمة البيئية البحرية وساهم فى تغيّر مسارات التيارات المائية التقليدية، كما أن وتيرة وشدة العواصف البحرية زادت بنسبة %35 شرق المتوسط خلال العقد الأخير، ما تسبب فى تعطيل جدول الرحلات البحرية ورفع تكاليف التشغيل والصيانة.

وأضاف أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمعدل 3.6 ملم سنويًا أصبح يشكل تهديدًا مباشرًا للبنية التحتية للموانئ المصرية، خاصة الواقعة فى الدلتا، ما تطلّب استثمارات إضافية لحماية المنشآت الساحلية، فى ظل تآكل الشواطئ بمعدلات تتراوح ما بين 7-12 مترًا سنويًا فى بعض المناطق، وهو ما يُنذر بتأثيرات بعيدة المدى على استدامة البنية التحتية.

وأشار إلى أن قناة السويس سجّلت نحو 25 حالة تأخير للسفن فى عام 2022 بسبب الأحوال الجوية المتطرفة، بنسبة زيادة بلغت %40 مقارنة بمتوسط السنوات الخمس السابقة، لافتًا إلى أن هذه التغيرات المناخية أدت إلى زيادة فى معدلات المطالبات التأمينية نتيجة الخسائر الناجمة عن العواصف، وارتفاع تكلفة إصلاح الأضرار مقارنة بعام 2015.

ونوّه إبراهيم إلى أن السفن العاملة بالمياه المصرية والإقليمية أصبحت تواجه مخاطر متزايدة، من بينها الأضرار الهيكلية الناتجة عن الأمواج العاتية، وتلف أنظمة الملاحة، والتآكل المتسارع هياكل السفن بسبب التغير فى ملوحة وحرارة المياه، فضلاً عن ارتفاع مخاطر الحرائق، خاصة فى السفن التى تنقل مواد خطرة.

أما على صعيد الشحنات، فتبرز مخاطر تلف البضائع الحساسة نتيجة موجات الحر، والانقلاب أو التصادم نتيجة للأحوال الجوية القاسية، وتأخر التسليمات الذى يؤثر على سلاسل التوريد، كما تزداد احتمالات التلوث البحرى والتسربات بسبب الحوادث الناتجة عن الطقس، وهو ما يستدعى مراجعة شاملة لسياسات التأمين البحرى فى مصر.

وأكد إبراهيم أن سوق التأمين البحرى فى مصر لا يزال فى مراحله الأولى من التكيف مع هذه التحولات المناخية، ووفقا لدراسة للهيئة المصرية للرقابة على التأمين، فإن %65 من وثائق التأمين البحرى فى السوق المصرية لا تغطى المخاطر المناخية بشكل صريح، بينما تقدم %22 ملاحق محدودة، وتوجد فقط نسبة ضئيلة من الوثائق المتخصصة التى تقدم تغطية شاملة لهذه المخاطر.

وأوضح أن بعض الشركات بدأت تتحرك بالفعل، منها “مصر للتأمين” و”قناة السويس للتأمين”، حيث قدمتا تغطيات تأمينية للأضرار الناتجة عن الظواهر المناخية المتطرفة، فيما أطلقت “المهندس للتأمين” برنامجًا تجريبيًا لتغطية خسائر التأخير، لكن هذه المبادرات ما زالت محدودة وغالبًا ما تتسم بارتفاع أقساطها واستثناءاتها العديدة.

وأشار إلى أن من أبرز التحديات التى تواجه شركات التأمين فى هذا الإطار هو غياب البيانات التاريخية الكافية محليًا، والاعتماد على بيانات عالمية لا تتناسب مع الخصوصية المناخية والإقليمية للسوق المصرية، كما تفتقر الشركات إلى نماذج اكتوارية محدثة وخبرات فنية متخصصة، حيث إن %85 من الشركات لا تمتلك وحدات تقييم مخاطر مناخية.

وشدد على أن تطوير منظومة تأمين فعّالة مخاطر المناخ فى النقل البحرى يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، بداية من تحديث الأطر التشريعية، مرورًا بإنشاء مركز وطنى للبيانات المناخية البحرية، وصولًا إلى تأسيس صندوق وطنى لتغطية الكوارث المناخية الكبرى بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص.

وأضاف أن السوق المصرية يمكنها الاستفادة من التجارب الدولية فى هذا المجال، مثل نموذج لويدز فى المملكة المتحدة، أو برنامج بوسيدون فى اليونان، أو الصندوق النرويجى للتأمين البحرى المناخى، فضلًا عن مبادرة سنغافورة التى تجمع بين القطاعين العام والخاص لتطوير نماذج دقيقة.

وأكد أن بناء منظومة تأمين بحرية متكاملة ضد التغيرات المناخية لم يعد رفاهية، بل أصبح ضرورة استراتيجية لحماية قطاع حيوى فى الاقتصاد المصرى.

وشدد على أن الفرصة سانحة اليوم لإعادة رسم خارطة التأمين البحرى فى مصر من خلال الابتكار، وتبنى التكنولوجيا، وبناء شراكات دولية تساهم فى تعزيز قدرة السوق على التكيّف مع المخاطر المناخية المتزايدة.

وبدوره أكد علاء العسكرى، أستاذ التأمين والعلوم الاكتوارية بجامعة الأزهر، أن التغير المناخى ترك تأثيرًا واسعًا على مختلف القطاعات الاقتصادية خلال الفترة الأخيرة، وكان لقطاع النقل البحرى نصيب واضح من هذا التأثير. 

وأوضح أن التحول نحو النقل البحرى جاء باعتباره أكثر ملاءمة مقارنة بوسائل النقل الأخرى فى ظل التحديات المناخية.

وأشار إلى أن المخاطر التى تواجه السفن لا تزال ترتبط بشكل كبير بالمخاطر البحرية المعروفة مثل الشحوط، والاصطدام، والغرق، إلا أن التغير المناخى أدى إلى ارتفاع منسوب المياه فى البحار والمحيطات، ما قد يزيد من احتمالية تصادم السفن بجبال الجليد المتحركة وغير المرئية.

وضرب مثالًا تاريخيًا بسفينة “تايتانيك”، التى غرقت بسبب اصطدامها بجبل جليدى، مشيرًا إلى أن هذه الكتل الجليدية قد تنتقل من أماكنها تحت سطح المياه دون أن يتمكن قبطان السفينة من رؤيتها، مما يزيد من المخاطر المحتملة.

وأضاف أن بعض شركات التأمين بدأت تأخذ فى اعتبارها تأثيرات التغير المناخى عند تصميم الوثائق، وظهرت بالفعل بعض المنتجات التأمينية التى تغطى هذه المخاطر، إلا أنها لا تزال محدودة الانتشار عالميًا. 

ولفت إلى أن هذا التوجه يأتى ضمن المسارات الداعمة لأهداف التنمية المستدامة، خاصة بعد استضافة مصر لمؤتمر المناخ (COP 25) الذى ساهم فى تسليط الضوء على دور شركات التأمين فى مواجهة التحديات المناخية، رغم غياب منتجات تأمينية تُحدث تغييرًا جذريًا فى السوق حتى الآن.

وفيما يتعلق بتقييم المخاطر، أوضح العسكرى أن شركات التأمين تواجه صعوبة فى تسعير المخاطر المتعلقة بالتغير المناخى بسبب غياب البيانات التاريخية الكافية. 

وقال إن عدم تكرار الحوادث المرتبطة بالتغير المناخى يحدّ من القدرة على تحليلها إحصائيًا، وبالتالى لا يمكن تسعيرها بدقة، لذا تلجأ الشركات إلى نماذج تعتمد على “نظرية المصداقية”، من خلال تعميم بعض المخاطر المشابهة وتطبيقها تدريجيًا حتى تتكون خبرة فعلية تسهّل تقييم هذه الأخطار مستقبلًا.

وأكد أن التغيرات المناخية الحالية، مثل الاحتباس الحرارى وذوبان كميات كبيرة من الثلوج فى القطب الشمالى، ساهمت فى ارتفاع منسوب المياه، لكن هذه المتغيرات لا تمثل تهديدًا مباشرًا لحركة السفن فى الوقت الراهن، إلا أن بعض المخاطر، مثل تحرك جبال الجليد المفاجئ، تظل قائمة وإن كانت احتمالات وقوعها ضئيلة.

العالم: الأحوال الجوية تدفع نحو تبنى الوقود الأخضر

إبراهيم: البحر المتوسط يسجل زيادة بنسبة %35 فى شدة العواصف

العسكري: الشركات تعتمد نماذج المصداقية لتقييم المخاطر