خواطر مواطن مهموم 304

استسهال تبنى رواية من تربطنا به تحالفات ومصالح، أو الحرص على تقديمه بصورة مشرقة أو سيئة لا تمت للواقع بصلة

توفيق اكليمندوس
Ad

فى المسألة الروسية الأوكرانية من زاوية مصرية (1)

بداية أقول إن وصف الواقع لا يعنى التقدم بتوصية، هذا حقيقى دائما بصفة عامة وفى مجال العلاقات الدولية بصفة خاصة، لو بَنَت مصر سياساتها على مبدأ معاداة أى طرف يرتكب جرائم أو له ممارسات لا أخلاقية لوجب عليها معاداة نصف دول المعمورة أو أكثر، ومنها الدول الكبرى الثلاث.

عشرات من الاعتبارات تلعب دورا فى رسم ملامح سياسة خارجية أيا كانت، منها السياسى والدينى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى والديموغرافى والنفسى والمهنى والتاريخي. لأغلب الدول ذاكرة، ولأغلب القادة تصوراتهم التى قد تتفق أو لا مع توجهات وميول الرأى العام، وكل قائد متأثر بعدة عوامل.. خلفيته المهنية والطبقية وعلاقاته مع عائلته ومع زملائه وظروف جيله إلخ. وفى السياسة الخارجية هناك عدد من الخيارات ولكنها ليست لا نهائية.

باختصار أطالب القارئ الكريم بالتمييز بين ملاحظات حول الخيارات المتاحة أمام مصر سأتقدم بها قبل الخوض فى صلب الموضوع وبين ما سأقوله فى وصف الواقع فيما يتعلق بروسيا وأوكرانيا. تشرشل – وما أدراكم من تشرشل- كان يمقت الشيوعية بصفة عامة وستالين بصفة خاصة، ولكنه تحالف مع الاتحاد السوفييتى فى الحرب العالمية الثانية، وقال إنه مستعد لأن يتحالف مع الشيطان إن كان فى هذا مصلحة لبلاده.

ملاحظاتى بسيطة... سمعت مرة أو مرتين من يقول إن روسيا أقوى بكثير من أوكرانيا، وهذا حقيقي، وألّا مصلحة لمصر فى معاداة الطرف الذى سينتصر فى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وهذا حقيقى أيضا، ما هو غير حقيقى هو تصوير الأمر على أنه لا يخص سوى روسيا وأوكرانيا، هو يخص أيضا أوروبا والسلوك الروسى تهديد وجودى لعدد من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبي، وبالتالى للاتحاد نفسه، وتفكيك الاتحاد هدف روسى أصيل. أقولها وأنا لست من المعجبين بنموذج وتصورات هذا الاتحاد. 

تأملوا عبرة انضمام دولة أدمنت الحياد وبَنَت توجهاتها عليه منذ عقود إلى الناتو، أتحدث عن السويد، هل تتصورون أنها تفعلها وهى سعيدة؟ الدافع وراء هذا القرار تهديد روسى أجبرها على هذا.

ملاحظتى الثانية تخص ما نتهم الغرب به وهو الكيل بمكيالين، وهو اتهام فى محله، ومشاهدة ما يحدث فى غزة يثير غضبى وحزنى ويأسي. ولكننى أريد أن أنبه إلى ميل الكثيرين منا إلى الكيل بمكيالين أيضا، إن كانت الضحية فلسطينية نتعاطف وندين وندعم بأقصى ما لدينا ونتمنى محاكمة دولية للمجرمين... وهذا أقل واجب، وإن كانت الضحية أوكرانية نجد بيننا من يهلل ويطبل للمعتدى ويصدق كلامه عن الحقوق التاريخية ويتبنى روايته. 

استسهال تبنى رواية من تربطنا به تحالفات ومصالح، أو الحرص على تقديمه بصورة مشرقة أو سيئة لا تمت للواقع بصلة، ميل عالمي، لا أنسى مقالا غربيا قدم فى الثمانينيات أسامة بن لادن على أنه “مقاتل من أجل الحرية”، ومجلة أمريكية مرموقة وصفت السادات قائلة إنه بطل السلام أسبوعا، ثم قالت عنه بعد شهر إنه طاغية مصر، وعالمية هذا الميل إلى تغيير الصورة مع تغير المصالح وتقلب الأهواء لا تقلل من خطورته ومن فساده.

بيد أن الأمر فيما يتعلق بروسيا أكثر تعقيدا فيما يبدو، الرئيس بوتين ينال إعجاب قطاعات كبيرة من رأينا العام لأن الصورة التى يقدمها الإعلام الروسى له ولسياساته تتفق وما تتطلع إليه هذه القطاعات، وهذا يفرض سؤالين... هل هذا الذى نبتغيه جيد لنا؟ وهل تماثل الصورة التى يقدمها الإعلام الروسى حقيقة المشهد فى روسيا وفى العالم؟ 

ردى على السؤالين هو (ألف “لا”). أفضل عدم الخوض فى السؤال الأول على أهميته، مكتفيا فى السلسلة الحالية بالبحث فى السؤال الثاني، بحث يقتضى تحديد مدى صحة المبررات الروسية لغزو أوكرانيا، وحقيقة وجود تهديد غربى على موسكو، وتأثير هذه الحرب على المجتمع الروسي.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية