درس غراب ترينيداد لشامبليون باريس!

الكرامة لا تتجزأ، والرموز ليست مجرد حجارة! فهل سنظل نُوطأ تحت أقدام تماثيل الآخرين ومفاهيمهم

محمد بكرى
Ad

أُزالت ترينيدا وتوباجو تمثال كريستوفر كولومبوس فى 6 أغسطس 2025، (مع التزامن بالاحتفال بيوم تحرير العبيد) بعد مناقشات مُكثّفة وتقييم فنى، ليوضع التمثال بالمتحف الوطنى ومعرض الفنون ليُعرض ضمن سياق تاريخى نقدى لا فى قلب ساحة الاستقلال! إذ يؤمن عدد متزايد من مواطنى الدولة ذات الجزيرتين أنه لا ينبغى تمجيد كولومبوس، أبو الشرارة الاستعمارية ورمز الهيمنة والاستعباد ومن تعلم منه بعده!

فى وقت سابق من 2025، قامت الجزيرتان بإزالة ثلاث سفن لكولومبوس من شعار النبالة الخاص بها واستبدالها بصورة Steelpan الشهيرة (أداة تم اختراعها وطنيا).

جاءت الإزالة بعد سنوات من نشاط محلى لتغيير المشهد العام من رموز الاستعمار إلى ما يُعبّر عن الهوية المحلية، حيث وصف Shabaka Kambon من مؤسسة Caribbean Freedom Project التمثال بأنه جعل الدولة “أضحوكة عالمية” حين تطالب بالتعويض عن جرائم استعماريين بينما لا تزال تُكرّمهم!

الإزالة جاءت نتيجة وعى الحكومة بأثر التمثال على الأجيال الجديدة فى ترينداد وتوباجو، وضغوط مستمرة من الشعوب الأصلية ومؤسسات ثقافية، لتشرع بنقاش وطنى واسع النطاق حول الرموز الاستعمارية العامة لإعادة سرد التاريخ بعيدًا عن تمجيد الاستعمار، وبعد استشارة المواطنين والمجتمع المدنى، وخلال جلسة استماع عامّة، تقدّم أكثر من اثنى عشر مشاركًا من أصول أفريقية وأصلية وأوروبية، ليدعم العدد الأكبر إزالة التمثال لتنقية المكان وتكريم الأجداد، وليس لمحو التاريخ، بل لتعليم ورؤية مختلفة له(لمح أحد الحضور قائلا: بعد 62 عامًا من الاستقلال، ما زلنا نعيش فى فضاء يعكس رؤية من كانوا أسيادنا الاستعماريين!).

اللافت أن ترينيداد وتوباجو، ليست فى تاريخ وعراقة مصر وتراثها التليد، ومع ذلك لم تكتف باستقلالها منذ عقود، بل كافح وعى شعبها فى تنقّيب الرموز الباقية، لتكتشف أنها استمرار خفى لخطاب استعمارى، نجحت فى إنقاذ كرامة أبنائها من رسالته الاستعمارية المطلوقة فى فضاء الاستقلال.

موقف ترينيداد وتوباجو الإيجابى من إزالة تمثال كريستوفر كولومبوس، أثار بداخلى وجيعة مصر السلبية من تمثال شامبليون، على خلفية قصة الغراب فى سورة المائدة (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.)! فهل تكون مصر أقل من ترينيداد وتوباجو لتعلم كيفية التصدى لإهانة النحات أوجست بارتولدى فى صنيعته الممجوجة بنسخة تمثال شامبليون ١٨٧٥ بالسوربون، يدعس بحذائه رأس الملك المصرى القديم - كرمز لتصغير وإخضاع التاريخ المصرى تحت سردية التفوق الفرنسي/ الأوروبي؟ الحدث الترينيدادى مثال حديث لمصر، موثق، وغير محل جدل قانونى، يثبت أن نقل أو إزالة تمثال ليس عملاً “تدميرياً”، بل خياراً حضارياً لإعادة سرد التاريخ فى صورته ومعناه الحقيقى.

فهل يمكن أن تستفيد مصر من هذه التجربة الطازجة لانتعاش كرامة شعب ترينيداد، لإثبات حق مصر لتصحيح تاريخ ما شوهه بارتولدى بصورة تمثال شامبليون، كرمز لخطاب ثقافى استعلائى، ورمزية فنية فجة لتجسيد السيطرة الفكرية الأوروبية على التاريخ المصرى، فيخلق دفاعها إحساس أن ما تطالب به مصر ليس استثناءً، بل امتدادٌ لتيار عالمى شمل بريطانيا، أمريكا، كندا، بلجيكا، بل وفرنسا ذاتها؟

غراب ترينيداد الحكيم، شرارة حديثة يجوز أن تستفيد منها مصر لتوقد طلبها العادل من الإدارة الفرنسية بإعادة شامبليون (كأداة أيديلوجية)، لمتحف بارتولدى فى كولمار (كتحفة فنية)، للعرض فى سياق نقدى بدل الفضاء العام المُمجد فى غير صورته الصحيحة! إن ما فعلته ترينيداد يضيف سابقة جديدة، حديثة، وناجحة تستفيد بها مصر، فلم تُتهم الدولة هناك بـ”تدمير التراث” أو “التطرف الثقافي”، بل قُدم قرار نقل كولومبوس للمتحف كخطوة واعية نحو مصالحة تاريخية وانتصار للكرامة الوطنية.

لا شك أن مصر تمر بأحرج أوقاتها التاريخية اقتصاديا، اجتماعيا، سياسيا إقليميا ودوليا، وأن ذلك يفرض حسابات وأولويات وتحديات، قد تكون معها قضية شامبليون أقل ما يشغل بال الإدارة وسط زخم مسؤولياتها وصراعاتها! ومع ذلك فقضية شامبليون لا ولن تموت، لأن مصير هذه المشكلات الحل أيا كان شكله ونوعه وتوقيته، ومع ذلك سيبقى معنى الحذاء داعسا لحزمة قيم تشكل معظم قراراتنا فى هذه الأزمات، طالما لم ننجح فى رفعه بكرامة ومنطق وقانون، بعيدا عن أى إساءة لشامبليون أو دحض أثره العلمى، بل فى تصحيح رمزية الاستعلاء الثقافى والادعاء المزيف من بارتولدى لفضل شامبليون على التاريخ المصرى.

فهل تعجز مصر أن تكون مثل ترينيداد لتوارى سوءة شامبليون فى جُحر بارتولدى بكولمار؟ ما يُحسب لتجربة ترينيداد هو موقف الحكومة الواعى من مطالبات ومتابعات مؤسسات المجتمع المدنى وممثلى الشعوب الأصلية والحقوقيين ضد تمثال كولومبوس، انتصارا لإرادة ووعى شعبى بالكرامة، يرفض أن تظل رموز الغزو مرفوعة فوق رؤوس الأجيال، ليكون نقلها التمثال للمتحف، إبقاء للقصة حية، لكن فى سياق نقدى يفضح لا يمجّد.

أزمة مصر ضد تمثال شامبليون (كقضية تمس الهوية التاريخية والثقافية) أقوى من تجربة ترينيداد، تاريخيا، ومستنديا، وفنيا، وقانونيا، ليس بدحض استعمار مباشر، ولكن حقها فى أن تُرى وتُحترم كما نحن حقيقة، لا كما يصوّرنا الآخر لغرض فى نفس يعقوب وأحفاده.

الكرامة لا تتجزأ، والرموز ليست مجرد حجارة! فهل سنظل نُوطأ تحت أقدام تماثيل الآخرين ومفاهيمهم، أم سنُعيد كتابة المشهد الحقيقى كما فعلت ترينيداد، انتصارا لكرامة تاريخية مهدرة ومستقبل أجيال تنتظر الإنصاف والتحرك الواعى من الدولة المصرية؟

لدينا الحق ومصر مهتمة، وعناصر المسؤولية الفنية التقصيرية على النحات أوجست بارتولدى متوفرة بالمستندات التاريخية والفنية والقانونية، لإثبات إساءة تمثال شامبليون 1875 طبقا لمواثيق اليونسكو وقانونى حماية التراث والبيئة البصرية الفرنسى، وميثاق حقوق الإنسان. فطريق المطالبة القانونية الصحيح متوفر بالفعل، والكوادر المصرية القادرة على بناء الطلب موجودة، وسابقة ترينيداد الحديثة قابلة للقياس، ما نحتاجه شرارة البدء! فدعونا نتعلم من الغراب لنستعيد كرامة عقابنا المدعوس!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]