خواطر مواطن مهموم 303

ويتسرع الغاضبون والغاضبات ويقررون أن كل هذا يهدم أركان الأسرة، ويخالف الأصول وقواعد الأدب، ولا يميزون بين من تطالب بترشيد المنظومة الذكورية الأبوية

توفيق اكليمندوس
Ad

تهديدات للثوابت؟

لا أستطيع الزعم بأننى أقرأ كل ما يُكتب، ولا أننى أستمع إلى كل ما يقال، وأعترف بأن مصدرى الرئيس هو مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض مقالات الصحف، وبعض الأدبيات.

تكوَّن لديَّ انطباع بأن هناك مشتركًا بين كل التعليقات والإدانات وأشكال الشجب المتعددة، هناك إجماع على اعتبار الوضع القائم حاملًا لعوامل عدم الاستقرار، واعتبار عدم الاستقرار خطرًا على الأمن، وعلى القول بأن السبب الرئيس له هو ظهور تصرفات وأفعال فى المجالين العام والافتراضى تتجاهل قيمًا وأعرافًا مصنفة على أنها من الثوابت، وتُخالفها، وهى تصرفات يراها كثيرون عيبًا، ومن شأنها إثارة غضب مَن يرى نفسه سويًّا، ودفعه إلى العنف. ويزداد الاستياء من هذه الأفعال والتصرفات إن ارتكبتها شابات ونساء، يوسّعن بفعلهن هذا من مجال حرياتهن، يَسخرن من الرجال، يُعبرن عن تطلعاتهن وآمالهن ورغباتهن، يرقصن، يُغنين، يفتخرن بجمالهن... إلخ.

ويتسرع الغاضبون والغاضبات ويقررون أن كل هذا يهدم أركان الأسرة، ويخالف الأصول وقواعد الأدب، ولا يميزون بين من تطالب بترشيد المنظومة الذكورية الأبوية، ومن تريد مزيدًا من المساواة، ومن تريد هدمها، ومن تسعى إلى التعبير عن شخصيتها، ومن تُجرب حظها فى مجال الترفيه، ومن تعتدى حقًّا على منظومات الأخلاق. يلاحَظ فى هذا الصدد أن النساء قد يَكنّ أكثر قسوة فى رفضهن كل هذا من الرجال. ويتسابق كثيرون فى الوعظ وإطلاق اللعنات والمطالبة بإخضاع تلك «المتمردات».

هذا الشجب وهذه الإدانات تطول أيضًا الأعمال الأدبية والفكرية والفنية، فما أسهل إطلاق تُهم الرِّدة وتهديد الثوابت وإهانة الرموز والإساءة إلى سُمعة البلاد والإخلال بالأمن العام. ما أسهل «بَهْدلة» أفراد معدودين وتقديمهم قربانًا لرأى عام قد يكون موجودًا ومشحونًا فعلًا أو لا.

أودّ أن أُشدد على كونى شديد المحافظة فى عدد من المجالات، لا أَعدُّ عددًا كبيرًا من الأعمال الفنية فنًّا، ولا أرى فى أعداد من الأعمال الأدبية أدبًا، وبوصفى «نكدي» لا أرتاح إلى عدد من الأنشطة المحسوبة على ثقافة الترفيه، والإسفاف والتفاهة والانحطاط تزعجنى أغلب الوقت. وكأيّ قارئ لأدبيات العلوم الاجتماعية أعرف أضرار (ومزايا) ثقافة الجماهير الغفيرة، وتسليع المنتجات الثقافية. هل يعنى هذا أننى أطالب بمحاكمة أصحاب الأعمال الرديئة؟ لا... وبالعكس، أُذكّر الجميع بأن مصر ما زالت قوة عظمى ثقافية بفضل ما يتأفف منه حراس الفضيلة.

لا أطلب من أحدٍ مباركة ما لا يعجبه، لكننى أودُّ أن أشير إلى بعض تبِعات الانقضاض الدورى على من لا يلتزمون بالأصول، ولن أُذكّر أحدًا بأن تعريف الأصول متغير من وسط إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، أولًا هذا الانقضاض غير بنّاء ويسهم فى تعريف الناس بضحيته، شخصيًّا لم أسمع عن رورو البلد مثلًا قبل القبض عليها، ولم أهتم بمتابعة ظهورها إلا بسبب هذا، ثانيًا من المستحيل القبض على كل مخالف، وأول خصائص دولة القانون عمومية القاعدة القانونية ووجوب سَريانها على الجميع. أفهم طبعًا أن التصور السائد هو أن القبض على فرد يردع الجميع، ولكنه يؤدى إلى شيوع ثقافة خوف تؤثر بالسلب على الجميع، تعلمتُ فى كلية الحقوق أن المنع هو الاستثناء، ونتبنى الآن بكل ثقة منظورًا يوسع منه. وثالثًا من الناحية السياسية، يؤدى قمع رموز ما يسمى التجاوز إلى تعميق القطيعة بين الأجيال وبين القطاعات المختلفة من المجتمع، وقد يدفع بعض ألمع أصحاب «المهازل» إلى الهجرة، فى حين أن وجودهم فى مصر كان مصدرًا للعملة الصعبة، وأخيرًا أنا صاحب مشوار طويل فى مجال الإنتاج العلمي، وأعرف تمامًا أن ثلاثة أرباع هذا المنتَج لا يساوى شيئًا، وضرره أكثر من نفعه، لكن لم ينجح أحد فى الجمع بين التخلص من السيئ والقضاء عليه وبين الاحتفاظ بالثمين والنفيس وتشجيعه. شِئنا أم أبينا، القضاء على الغث هو أيضًا وحتمًا قضاء على الغالى النادر.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية