تأملات ساذجة فى المشهدين الإقليمى والدولى
هناك شِبه إجماع دولى على ضرورة حل الدولتين، لكن هذا يُخفى اختلافًا شديدًا فى المقاربات، بين من يرى أن المباراة صفرية ويجب أن تبقى كذلك، أيْ يرى أن تفعيل هذا الحل وإقامة دولة فلسطينية يُعد نصرًا كبيرًا على إسرائيل، وأن وجود دولة فلسطينية ليس حلًّا للنزاع بل مرحلة جديدة له، وبين من يرى أن هذا الحل هو محاولة إحلال منطق “الكل يكسب” محلّ منطق المقاربة الصفرية، وهو إحلال يتعرض لاعتراضات وصعوبات، فهو لا يعيد للفلسطينيين كل الأرض المسلوبة، ويتعارض ومنطق تديين الصراع، ويمكن أن يقارَن بتصريح الرئيس مرسى الشهير، الحريص على سلامة الخاطفين والمخطوفين. ورغم هذا فإننى أُفضل المقاربة الثانية على الأولى؛ لأننى أعرف حجم معاناة الشعبين طوال المائة والأربعين سنة الأخيرة، وهى معاناة استثنائية فريدة، ولأننى أرى فى استمرار الصراع صعودًا إلى التهلكة للطرفين، ولأننى أعرف أهمية مساهمات المسلمين واليهود فى التراث الحضارى العالمي، كما أعرف أضرار خطاب الكراهية والشيطنة على نفس وتصورات وسلوكيات مَن يتبناه.
وأعترف طبعًا بشرعية خطاب وممارسات مَن يفضل التمسك بصفرية النزاع، للأسف هذا الموقف طبيعي، ولأن الظلم الذى وقع على الفلسطينيين مهول ومسكوت عنه، ولكننى سأنصحه بإلحاح... عليك أن تفكر فى إستراتيجيات تلغي، أو على الأقل تحدُّ من قدرة عدوّك على التصعيد إلى أعلى سقف، وعليك ألا تقع فى فخ توظيف قضيتك من قِبل إمبراطوريات لا تريد الخير لك، وإن وجدت أن ضرورات التحالفات لا تترك لك خيارًا، فاختر إمبراطورية لن تتخلى عنك دون أن تدفع ثمنًا كبيرًا، وأضيفُ أخيرًا، إياك واحتقار القانون الدولي؛ فهو سند تحتاج إليه وستحتاج إليه.
أعرف أن الوقت تأخر، وأن المذابح تُغذى الطلب على المزيد منها وعلى الثأر، وأن الجنون يولّد جنونًا، وأن اندفاع الفرقاء المتحاربين إلى الهاوية صعب إيقافه، وأن إيقاف هذا التسابق على التدمير يتطلب جهدًا جماعيًّا، وأن هذا الجهد ضروري، وربما لن يكون كافيًا.
انتقالًا إلى المشهد العالمي، هناك رئيس أمريكى يتصرف وكأنّ كل حلفاء الولايات المتحدة عبء عليها، وكأن المصلحة تُحتم اعتبارهم فريسة يجب نهبها، وضعفاء لا يستحقون سوى الإهانة، وكأن التجارة الحرة مكسب لكل البشرية باستثناء الولايات المتحدة، وأتصور أن هذه المقاربة ستكون تبِعاتها سلبية للغاية على المدى الطويل للولايات المتحدة، أيًّا كانت المكاسب الوقتية والظرفية التى تُحققها.
دعنا نتكلم عن المكاسب الوقتية والظرفية، حقق الرئيس الأمريكى انتصارًا كبيرًا على الاتحاد الأوروبى عندما نجح فى فرض اتفاق قدَّم بمقتضاه الاتحاد عدة تنازلات مقابل لا شيء سوى زيادة فى الرسوم أقل من الزيادة التى هدّد بها الرئيس الأمريكي، ولم ينجح الاتحاد فى الحصول على وضع مماثل للمملكة المتحدة.
بَيْد أن وضع الاتحاد خاص، يواجه تهديدًا روسيًّا حالًّا وواضحًا، وهو حاليًّا عاجز عن الدفاع عسكريًّا عن نفسه، وعدو الاتحاد - النظام الروسى - لا يفكر بمنطق المصلحة ولا بمنطق الحلول الوسطى النهائية؛ أى حل وسط سيكون هدنة قبل جولة جديدة، فهو يرى أنه شن حربًا مقدسة على ليبرالية ممقوتة هى فى نظره أم الانحلال. باختصار لا يمكن التوصل إلى تفاهم معه لا يكون هزيمة كاملة للاتحاد، وقد أُخصص مقالًا لاحقًا فى تفنيد مزاعم الدعاية الروسية. المهم هنا... الاتحاد الأوروبى ليس مخيَّرًا.
ما لا يراه الرئيس الأمريكى هو ميل كل شعوب العالم إلى تصوير نفسها منتمية إلى مجموعة ثقافية أكبر منها، مصر تنتمى إلى العالمين العربى والإسلامى مثلًا، أغلب شعوب العالم ينظرون إلى الغرب وكأنه عائلة واحدة، ويرون كيف يعامل الرئيس الأمريكى أبناء عائلته، تايوان مثلًا مرعوبة من السلوك الأمريكى تجاه أوروبا. وإضافة إلى ذلك... هناك مقولة تزداد شعبية، التنازلات للصين تجلب استقرارًا، التنازلات للولايات المتحدة تجلب حاليًّا المطالبة بالمزيد منها مع رئيس لا يؤتمَن.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
