حين تهزمنا الأزمات وتنتصر الرموز!
ررغم تغير الحكومات، واشتداد الأزمات، وتعدد الأولويات، يبقى تمثال شامبليون راسخًا فى مكانه منذ 150 سنة أمام السوربون، يطأ بحذائه رأس الملك المصري، شاهدًا على استمرار حالة استعمار ونحر ثقافى لم تتغير! فهل الأزمات تُبرر السكوت عن الإهانة؟ وهل فقدنا البوصلة تحت وقْع المعيشة والسياسة؟ من بداية الألفية الثانية، ونحن نعيش فى عالم متغير، كل يوم يحمل لنا أزمة جديدة! فى الداخل: اندثار الكوادر وهشاشة الأجيال الجديدة، تغوّل الاستثمار العقارى على حساب أولويات المواطن، سد النهضة، الغلاء والتضخم، تراجع الخطاب الثقافى والدينى الوسيط، هجرة العقول والشباب وتدهور التعليم، أزمة ثقة بين المواطن والدولة فى الصحة والإسكان والعدالة والحريات، إعلام مريض، تشريعات غير مدروسة، محاصرات أمنية شرقًا وغربًا وجنوبًا! فى الخارج: حروب، شرق أوسط مشتعل، ضغوط دولية، إعادة تشكيل للاقتصاد العالمي، مخططات دولية لإعادة كتابة تاريخ جديد بجغرافيا أجدد!
لكن، هل الأزمات تُلغِى الذاكرة واسترجاع الكرامة؟ هل انسحبنا من معركة الرموز، وتركنا شامبليون يحتفل وحده بانتصاره؟ منذ 1875 بباريس، وشامبليون صامد، ساخر، متحدّ، بلا مساءلة، بلا اعتذار، بلا مراجعة! يتنفس معناه وسط الأزمات، يلفّه الصمت، ويحميه تراث عتيد من تاريخ ومصالح ورموز تحرص على استمراره دعمًا لمكاسب متغلغلة فى النسيج التاريخي، والسياسي، والثقافى والاجتماعى المصري!
ومع ذلك فالأزمات لا تُلغى الرموز أو تقبر الكرامة! فى ثقافة الأمم المتقدمة، حتى فى أوقات الحرب، تُراجع رموزها، فها هى أمريكا أزالت 100 تمثال لقادة العبودية والكونفدرالية بعد احتجاجات جورج فلويد، رغم أنها كانت فى أزمة انقسام سياسى حادّ، أوروبا أعادت النظر فى تماثيل الاستعمار البلجيكى فى الكونغو، حركة Rhodes Must Fall فى جنوب أفريقيا أطاحت بتماثيل تعكس العهد الاستعمارى رغم الفقر والبطالة، فى فرنسا نفسها انتقادات عديدة لرموز استعمار الجزائر، والضغط المستمر لإعادة الجماجم من متاحفها!
والمحصّلة الحقيقية أنه لا توجد أزمة تمنعك من التفكير فى كرامتك الرمزية، لكن تمثال شامبليون أحد أدوات الوعى الجمعى العالمى فى ترسيخ صورة غير حقيقية عن وجود مصر كـ”مادة دراسة” لا كفاعل ثقافى عالمي، من واقع رؤية فوقية للهوية المصرية، بأن الغرب كشف أسرار مصر وليس المصريون أنفسهم، فما يكون ما بكم من نعمة إلا من شامبليون والبارتولديين من خلفه!
تُبنى العقيدة على الرموز، واستمرار الرمز يؤمّن حياة العقيدة، وما دام الحذاء الشامبليونى يُزيّن الهامة المصرية، فكل المعتقدات الثقافية والتاريخية العالمية عن مصر فى علاقة شامبليون وفرنسا بمصر القديمة، وتأثيرها الثقافى والسياسى على مصر الحديثة حتى الآن، ستحيا تحت ظلال الحذاء، فى الوقت الذى يجب ألا تقبل فيه مصر إهانة رمزية ثابتة فى قلب أوروبا!
فحين ننسى التمثال، نُعطيه الشرعية! حين نصمت أمامه، نُكرّس استلابنا! فالرموز لا تموت… بل تستمر فى تشكيل وعى الأجيال دون أن نشعر! والاستعمار الجديد لا يحتاج احتلالًا، بل يكفيه تمثال، وفيلم، ونصّ تعليمي، ولعبة جديدة، وفنانون مرتزقة!
إنها لعبة قديمة... فالطبقة العليا لا تحكم بالقوة، بل بالخداع! يُقسّمون المجتمعات كمن يقطع كعكة... الطبقة الدنيا فى صراع مع الطبقة الوسطى، والاثنتان مع مَن يحكمهما، ومَن يحكمهما مع مَن يستوْزِره! الأسود ضد الأبيض، المتدين ضد العلماني، الجاهل ضد المتعلم، وهم هناك، فى الأعلى... لا يهمهم دينك، ولا عِرقك، ولا فقرُك... ما يهمهم فقط أن تظل مشغولًا فى كره شقيقك، رأب صدعك، تأمين لقمتك، ستْر عرضك... حتى لا ترفع عينيك لرؤية عقيدة اللعبة وتعلم فنون مَن يسرقكم جميعًا! فبينما نتقاتل على فتات الخبز... هم يبتلعون المخبز برموز مؤبدة تشكل عقيدتنا الجديدة بصلاحيتهم لصنع الكعكة! إنهم لا يحكموننا بالقوة، بل يجعلوننا نتقاتل من أجل سجننا المحميّ برموزهم! كما ذكرت بمقالى (شيفرة شاملبيون وأزمة الجنوب) هذا الرأس المدعوس هو مجاز لكل جنوب جُرِّد من رموزه ووعيه وحقّه فى سرد ذاته!
مع احترامى لكل أزمات مصر، وقضاياها، وصراعاتها، ومخاطر تتعرض لها، وأولويات فارضة، وديون بالعة، وبطون جائعة، وشقق طاردة، وجيوب خاوية، ومخططات نافذة، فيجب ألا ننسى قضية تمثال شامبليون! ونكافئ الأزمات بطحنها كرامتنا واعتبارنا الوطني! أو نقبل أن نكون أمة تُوطأ رموزها تحت قدم أحد! أو نُساهم بأعذارنا وإهمالنا وتقاعسنا وأزماتنا لاستمرار دعس شامبليون قيمًا معنوية آخذة فى التحلل مع أزماتنا الموروثة والمصنوعة! فلا نستسلم لزمن الأزمات وحِيل البارتولديين، حتى لا نترك شامبليون ومَن خلفه يبتسم على حساب رمز عقيدة باعت لنا هواننا دون أن نشعر، لأن الزمن زمن أزمات!
أدعوكم لاستمرار اليقظة لحل القضية، لقدح زناد رفض المهانة باحتراف، لنفض غبار أزمات أقصر من عمر تاريخنا المدعوس تحت حذاء العنصرية الثقافية والأحبولة التاريخية!
أدعوكم ألا ننسى شامبليون، ليس كتمثال، ولكن كطوطم استعمار ثقافى يُرسخ للهيمنة الثقافية، تنبض معانيه فى وعينا الجمعي! فنعيش ونُربي، نتعلم وندعو، نتعامل ونتفاوض، نتعاقد ونتصارع، مُتوجين بحذاء فكري! فأيّ نصر تتوقعون ونحن حتى لم نحاول - وليس ننجح - فى رفع حجر عن كرامتنا؟ فلا تسأل متى نُزيح الحذاء عن هامتنا... بل متى نُسقطه من عقولنا، وقد استوطن طويلًا باسم العلم والحضارة... بينما لم يكن سوى فرية من حجر نُحتت ضدنا!
لا تنسوا شامبليون... لأنه لا ينسى تغفيلنا!
* محامى وكاتب مصرى
