شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية فى أدوار مؤسسات البريد الحكومية فى العديد من الدول، إذ انتقلت من كونها جهات خدمية تقليدية إلى منصات استثمارية تمتلك ذراعا مالية واستراتيجية تُدار بعقلية شركات القطاع الخاص.
تتضح أهمية هذه التحولات فى ظل تنامى الاتجاهات نحو الخصخصة والاستثمار المؤسسى، ما أوجد فرصا جديدة أمام هيئات البريد للانخراط فى السوق المالية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال إدراج شركاتها التابعة فى البورصات المحلية والعالمية.
الخدمات التقليدية
فى العالم العربى، هناك تفاوت كبير بين الدول من حيث مدى تطور أذرع البريد الاستثمارية، فعلى سبيل المثال، تبنّت المملكة العربية السعودية نموذجاً تدريجياً للتحول، من خلال إنشاء شركة “سبل للاستثمار” التابعة للبريد السعودى، والتى تهدف إلى تحويل أصول البريد إلى كيانات استثمارية قادرة على دخول السوق، ورغم عدم إدراج أى من شركات البريد السعودى حتى الآن فى البورصة، إلا أن التوجه المعلن ينسجم مع رؤية المملكة 2030 التى تدفع نحو التخصيص وتعظيم العوائد الحكومية من الأصول غير النفطية.
فى الإمارات، تمتلك مجموعة بريد الإمارات ذراعاً مصرفية قيد التأسيس باسم “بنك الإمارات للبريد”، بالإضافة إلى شراكات مع شركات لوجستية وتقنية مثل “أرامكس” و”دو”، ما يعكس تركيزاً واضحاً على الاستثمار عبر التحالفات بدلا من الإدراج المباشر.
بالمقابل، المغرب اعتمد على نموذج مختلف من خلال “بريد بنك” المملوك بالكامل للدولة، لكنه نشط فى استثمار أموال البريد فى السوق المالية عبر شراء حصص فى شركات مغربية مدرجة.
بينما يدير البريد التونسى صندوقاً للاستثمار، ويقدم خدمات مالية صغيرة، فى حين يظل الأردن أقل نشاطاً على هذا الصعيد، رغم تعاونه مع بنوك محلية مثل “بنك القاهرة عمان”.
وتبرز مصر كنموذج عربى فريد، إذ تمتلك الهيئة القومية للبريد ذراعا استثمارية نشطة هى “البريد للاستثمار”، وتشارك فى شركات كبرى من بينها “القابضة للتأمين” والتى من المتوقع إدراجها ضمن برنامج الطروحات الحكومية.
تجربة محدودة بمركزية القرار
رغم عراقة مؤسسة البريد التركية “PTT” والتى تأسست عام 1840، فإن توجهها الاستثمارى ظل محدودًا بفعل الطابع الحكومى المركزى PTT ولا تملك حتى اليوم شركات مدرجة فى البورصة، لكنها تدير أذرعاً تجارية نشطة مثل PTT Kargo وPTT Bank، وتركّز على الخدمات اللوجستية والمصرفية الأساسية.
يقدم البريد التركى خدمات مالية عبر PTTBank، منها تحويلات أموال، والمدفوعات الحكومية، وحسابات أساسية، لكن دون نطاق مصرفى تجارى شامل.
كانت هناك محاولات متكررة لخصخصة البريد أو إدراج بعض فروعه، خاصة فى قطاع الشحن، إلا أن هذه المساعى تعطلت لأسباب سياسية وتنظيمية، كما أن النموذج التركى يعانى من ضعف مرونة الحوكمة، وعدم السماح بفتح رأس المال لمستثمرين خارجيين، مما يحد من قدراته التوسعية والتنافسية.
نموذج متقدم فى التشريعات
محدود فى التنفيذ
رغم أن الخدمة البريدية الأمريكية USPS تعتبر واحدة من أضخم مؤسسات البريد عالميًا، فإنها محكومة بنظام خاص لا يسمح لها بامتلاك شركات استثمارية مدرجة. USPS لذلك تظل هيئة حكومية مستقلة، لا تهدف إلى الربح، ويُمنع عليها قانونًا الدخول فى أنشطة تجارية تنافسية مع القطاع الخاص.
وفقا لقانون البريد الأمريكى لعام 2006، فإنه غير مرخص لها بتأسيس شركات تابعة بغرض الربح أو الدخول فى استثمارات سوقية، وفقًا لقانون البريد لعام 2006.
تعانى USPS من خسائر مالية مستمرة منذ سنوات بسبب التكاليف العالية والخدمات الاجتماعية المفروضة عليها، خاصة فى المناطق الريفية.
تدخل USPS فى شراكات محدودة مع شركات تكنولوجية مثل Amazon، لكنها لا تملك حصصًا فى السوق المالية أو بورصات “وول ستريت”.
وفى الوقت الذى بدأت فيه دول مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان بتحويل مكاتب البريد إلى شركات مساهمة عملاقة مدرجة فى البورصة، تبقى تركيا وأمريكا خارج هذا التيار لأسباب مختلفة، تجمع بين الهيكل السياسى والقيود التشريعية.
عندما يتحول البريد إلى عملاق اقتصادي
إذا كان النموذج العربى ما زال فى طور التكوين، فإن دولا مثل ألمانيا، وإيطاليا، واليابان والمملكة المتحدة، قطعت أشواطاً متقدمة فى هذا المجال.
فى ألمانيا، تحولت “Deutsche Post” إلى واحدة من أكبر الشركات المدرجة فى بورصة فرانكفورت، بعد خصخصتها تحت اسم”DHL Group”، والتى تتجاوز قيمتها السوقية 50 مليار يورو، وتُعد من أكبر شركات الشحن والخدمات اللوجستية عالمياً.
فى إيطاليا، تم إدراج “Poste Italiane” فى بورصة ميلانو عام 2015، وتقدم الشركة خدمات مالية وتأمينية إلى جانب أنشطتها البريدية، وتُعد واحدة من أكثر الكيانات الاستثمارية تطوراً فى أوروبا.. أما اليابان، فقد طرحت “Japan Post Holdings” فى بورصة طوكيو عام 2015، وتضم شركات تابعة مثل “Japan Post Bank” و”Japan Post Insurance”، وتدير أصولاً تفوق 1.8 تريليون دولار، ما يجعلها من أكبر الكيانات المالية على مستوى العالم.
وفى المملكة المتحدة، تمت خصخصة “Royal Mail” بالكامل عام 2013، وتُعرف اليوم باسم “International Distributions Services” (IDS) وهى مدرجة فى بورصة لندن، الشركة تدير شبكة توزيع محلية ودولية وتشمل شركات لوجستية فى أوروبا مثل GLS.
تحديات الخصخصة والإدراج
رغم النجاحات التى تحققت فى النماذج الدولية، فإن عملية إدراج كيانات تابعة للبريد ليست خالية من التحديات، أولها يرتبط بالتحول الثقافى والإدارى داخل مؤسسة البريد نفسها، والتى تحتاج إلى تبنى حوكمة مالية صارمة ومعايير شفافية تتوافق مع متطلبات السوق، ثانياً، هناك تحديات تتعلق بتقييم الأصول وتحقيق جاذبية استثمارية كافية للمستثمرين، وهو ما قد يتطلب إعادة هيكلة واسعة داخل الكيان البريدي.
فى الدول النامية، تبقى العقبة الأكبر هى ضعف البنية التحتية الرقمية والمالية التى تتيح الربط بين خدمات البريد والتكنولوجيا المالية، وهو ما نجحت فيه نسبياً دول مثل مصر والمغرب، لكنها لا تزال بحاجة إلى تسريع وتيرة التحول.
محرك للتنمية
إدراج شركات البريد أو الشركات التابعة فى البورصة لا يمثل فقط تحولاً تجارياً، بل هو توجه استراتيجى يمكن أن يعزز من قدرة الدولة على تمويل مشروعاتها التنموية، فمن خلال بيع جزء من أسهم هذه الشركات، تستطيع الحكومات توليد سيولة مالية دون الحاجة إلى فرض ضرائب جديدة أو اللجوء للاقتراض الخارجي.
تجربة اليابان فى هذا السياق مميزة، فقد تم استخدام عائدات طرح “Japan Post” فى تمويل مشروعات البنية التحتية الريفية، كذلك، تعكس تجربة “Poste Italiane” قدرة الشركات البريدية على أن تكون جزءا من النمو الاقتصادى الشامل.
