خواطر مواطن مهموم 301.. عن تقييم حقبة عبد الناصر

فيما يخص تقييم الحقبة الناصرية، يواجه الباحث المحايد أو المتعاطف مأزقًا متعدد الجوانب

توفيق اكليمندوس
Ad

فى شبابى كنت أُحب جمال عبد الناصر ولا أُحب السادات، واليوم وأنا فى طريقى إلى أرذل مراحل العمر ما زلت متأكدًا من أننى لا أُحب الرئيس السادات، وأن هذا لا يمنعنى من الاعتراف بأهمية إنجازاته ومن براعته فى إدارة صراع وهو لا يملك فيه أحسن الأوراق. وشِئنا أم أبينا هو استردّ الكرامة والأرض، وفَهِم قبل غيره أن الاتحاد السوفييتى فى طريقه إلى خسارة الحرب الباردة، ففكّ الارتباط به، وأنهى حالة الحرب مما سمح لمصر بالعمل على حل مشكلاتها الاقتصادية، صحيح أنه لم يوفَّق فى إدارة الملفات الداخلية، لكن لا يمكن التقليل من إنجازاته، وأشير إلى مشترك بينه وبين ناصر... شخصيتان أسطوريتان، منح وزنهما فى الساحة الدولية لمصر سُلطة معنوية لا يتخيلها شباب اليوم. عند انفجار أزمة إقليمية أو دولية أينما كانت، يتساءل كل الفرقاء: ما موقف عبد الناصر أو ما موقف السادات.

نعود إلى عبد الناصر، خصصتُ لدراسة شخصه وحقبته ما لا يقل عن عشرين سنة من عمري، وغالبًا ربع قرن. هل أعرفه؟ لست متأكدًا من هذا. هل يمكن التعرف على مفاتيح شخصيته؟ شهادات رفاقه وأعدائه ومُحاوريه العسكريين والمدنيين هى مفتاح وقفل، مرايا وحاجب. هناك أسئلة مشروعة لا نملك أى رد جادّ عليها، قد تعود المشكلة إلى القواعد والمعايير المحددة لما يمكن قوله وما يجب كتمانه فى ثقافتنا. وإضافة إلى ذلك، على أى باحث جادّ الفرز؛ لاستبعاد كمّ هائل من الروايات والتفسيرات، المعظّمة أو المحقّرة، ولتوضيح السياق المفسر لها ولغيرها، وللتمييز بين الرواية الكاذبة والرواية الخاطئة، لاستبعاد الأولى ولمحاولة فهم لماذا أخطأ صاحب الثانية - الخطأ بحسن نية دائمًا كاشف للكثير.

فيما يخص تقييم الحقبة الناصرية، يواجه الباحث المحايد أو المتعاطف مأزقًا متعدد الجوانب. نبدأ بسؤال الهزيمة النكراء سنة 1967، هل كانت حتمية أم كان من الممكن تفاديها، إن قال الباحث إنها حتمية لأن القوى الإمبريالية لم تسامح مصر على نصر 56 وعلى دورها فى التحرر الوطنى الأفريقى والعربى والآسيوي، ولأن هذه الدول كانت تريد إفشال نهضة مصر، وتقوية مركز إسرائيل ومنحها عمقًا إستراتيجيًّا هى فى أمسّ الحاجة إليه، لَوجب عليه القول إن المشروع الناصرى لم يكن قابلًا للحياة، وحمَّل مصر ما لا طاقة لها به، وإدانة التجربة.

وإن رأى الباحث أن الهزيمة لم تكن حتمية، وأن المشروع كان قابلًا للحياة ناجحًا، لَوجب عليه الإقرار بأن إدارة الدولة (وعبد الناصر) للأزمة التى أدت إلى الحرب وللعمليات الحربية كانت دون المستوى، أو أن تصورات عبد الناصر فيما يخص التزاماته العربية لم تنتبه إلى احتمال لجوء عدد من الأطراف العربية وغيرها إلى إستراتيجية التوريط.

أغلب المؤرخين يستبعد القول بحتمية تُعفى القادة من المسئولية، صحيح أن التدخل المصرى فى اليمن أثّر بالسلب على قدرات القوات المسلّحة وفاقَم مخاطر حرب على جبهتين، وأقنع واشنطن بوجوب اعتبار عبد الناصر عدوًّا، وصحيح أن خطر حرب كارثية مع إسرائيل كان سيظل موجودًا ما دامت القوات المصرية موجودة بكثافة فى اليمن، وأن هذا الانشغال المصرى قد يدفع إسرائيل إلى الاشتباك مع سوريا أو مع غيرها، كل هذا لا يلغى حقيقة أن القيادة المصرية هى التى اختارت التصعيد فى توقيت بالغ السوء.

يميل عدد كبير من الباحثين إلى تحميل عبد الحكيم عامر المسئولية كلها، وقرأنا مَن يقول ظالمًا إن “الجيش خان السياسة”، ومَن يسلك هذا المسلك يقلْ أمرين مختلفين، ارتكب عامر عددًا كبيرًا من الأخطاء، وعبد الناصر لم يكن يعرف بالضبط حال استعداد القوات المسلحة؛ لأنه فقدَ القدرة على المتابعة الدقيقة بعد صدامه مع عامر سنة 1962، ويجب أن نحدد بدقةٍ مدى صحة كل هذا تحديدًا لا يتسع له المجال.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية