يشترط الدستور المصرى مصادقة رئيس الجمهورية على القوانين بعد إقرارها من البرلمان، هنا، تتجاوز المصادقة الطابع الإجرائي، لتُصبح قرارًا سياسيًا محوريًا يمس حياة المصريين! حيث ستكون الرئاسة بموقف حساس أمام قانون يُنظر إليه كـقانون إخلاء المصريين من تاريخهم السكنى – وأغلبهم من الطبقة المتوسطة والفقيرة - بداية من الإسكندرية لأسوان! فهل يصادق الرئيس أم لا يصادق على قانون وجع وإخلاء المصريين بدون حلول حقيقية؟ من أميز هبات الرئيس عبد الفتاح السيسى أنه رجل رؤى وإستراتيجية وتوقيت وحلول، وتاريخنا المعاصر منذ 30 سبتمبر 2013، يكشف حكمته فى العديد من الملفات الإستراتيجية، التى تعامل معها بفن التوقيت وتوازن المصالح وعدم التورط بإشعال نيران لا يمكن إخمادها، بل استيعابها وترويض الضغوط ببصيرته العسكرية الإستراتيجية! كملفات سد النهضة، حرب غزة، صراعات ليبيا، مناوشات تركيا فى الغاز وغيرها، وجميعها يحكمها مبادئ الترتيب، التجهيز، الاستعداد، الردع، الحلول البديلة، فمن يضع الإطار يتحكم فى النتيجة! ونحن فى مصر نفتخر دوما بعصر الديموقراطية وفصل السلطات، بما فى ذلك انفصال دور وسلطة وصلاحيات الرئيس عن الحكومة والبرلمان، بما يجعل الرئيس ضمير الأمة ورمانة الميزان لصالح المواطن والشعب، الذى عهدناه دوما يحنو عليه.
من جهة أخرى، فلا خلاف أنه كثيرا ما يحتاج الإنسان لوقفات صدامية ترده لصوابه، ولكن الصدمات المجتمعية غير المدروسة زمنيا وقانونيا ودستوريا وجغرافيا وسياسيا واقتصاديا، عواقبها كارثية لا تخف عن أحد، وتكون استكمالا “لمستور متغلغل يقود المجتمع المصرى لآخر تغيير فى نحر بُنيان المصريين”، بعد تجريف وعيهم الجمعى تعليميا، المخدرات، الأزمة الاقتصادية، الإعلام، المؤسسة الدينية! فلا يُمكن النظر لتعديل قانون الإيجارات القديمة – لا سيما فيما يتعلق بالإخلاء خلال سبع سنوات – باعتباره مجرد تحديث تشريعي، بل زلزال اجتماعى صامت، يضرب الأمن السكني، ويهزّ ثقة المواطن فى العقد الاجتماعي، بدءًا من أبسط حقوقه: السكن والاستقرار، فنجده يهدم تدريجيًا قاعدة الاستقرار لدى الشرائح الغالبة من المواطنين لدعم انتماءهم وولائهم للدولة.
من جهة ثانية، لا خلاف على أهمية عدل ميزان العلاقة التعاقدية، ومعالجة التشوهات الاقتصادية والمالية الموجودة، لتحفيز السوق العقارية، وتحرير الوحدات غير المستغلة، وتفعيل عدم دستورية الامتداد للأشخاص الاعتبارية، وغيرها من أسباب موضوعية أو اقتصادية، ولكن هل (توقيت) إصدار ونفاذ القانون يتسق مع الضوابط العامة لتوقيت إصدار القوانين الاجتماعية؟ يتطلب الدستور توفر الملاءمة الزمنية لإصدار التشريعات خصوصا فى أوقات الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية الكبرى، وإلا كان عدم الإصدار أولى، وبخاصة مع غياب بدائل واقعية وتنفيذية تعوض الإخلاء وإعادة توزيع الدخل، وعدم توفير ضمانات عادلة للطرف المضرور مقابل الطرف المجبور، أو تدرج زيادات الأجرة لمنفعة مُلاك من دخل مستأجرين محصورين دخلا وعملا وسوقا؟
خطورة الموقف ليست فقط بتوقيت بروزه بخلاف الضوابط السابقة، بمنتصف مخاض 2025 مصريا وعربيا وعالميا، (أزمة اقتصادية وبوادر كساد، تهرؤ وعى جمعي، صراعات وحروب، أمراض وبطالة، تحالفات لم تستقر، إلخ)، ولكن خطورة القانون كقاعدة عامة مجردة من حيث المكان والزمان والأشخاص، ستبدأ وتستمر صراعاته وحروبه من نفاذه للفترة الانتقالية، التى تتجاوز زمن مُصدريه ولن يتداركوا تداعياته!
فهل يُصادق الحانى على المصريين على هذا القانون ويكشف المستور بحكمته المعتادة؟
لا تصادق سيدى واكشف المستور عن؛ المستفيد الأكبر بهذا القانون، بصورته الحالية، الذى هو ليس المالك الأصلى الذى بُنيت على اسمه المظلومية (واستوفى حقه فعليا من سنوات طويلة تناسبت فيها تكلفة الإنشاء مع الأجرة والخلوات قبل تركة الأزمات الاقتصادية العميقة)، بل هم مستثمرون جدد اشتروا هذه العقارات القديمة بأسعار بخسة فى السنوات الأخيرة، دون الإسهام فى بنائها أو صيانتها، ثم يغنمون الآن أرباحا هائلة عبر الإخلاء التدريجى للسكان، وتحقيق عوائد استثمارية تفوق عشرات المرات سعر شرائهم! لنتوقع أزمة سكن فعلية على نطاق واسع، وزيادة الضغط على أطراف المدن والبنية التحتية، وإعادة إنتاج مدن الصفيح بشكل عصري، وارتفاع معدلات الهجرة الداخلية، والتشرد المقنع، وتهديد الاستقرار الأسري.
فغير خافٍ أن الدولة المُثقلة بديونها، لا تستطيع توفير سكن لملايين الأسر المهددة بالطرد إلا إذا توقفت تمامًا عن كل أنشطتها الأخرى، وهذا مستحيل، وبالتالي، فإن ما يُطرَح كضمان فى حقيقته بروباجاندا ناعمة، وتجميل لكارثة واقع جديد قوامه مشرّدو القانون! لا لأنهم رفضوا القانون، بل لأن القانون نفسه رفضهم! أخرجهم من الحماية، ثم تبرأ منهم أمام رهق الدولة لمنحهم الحل، غير القادرين عليه واقعيا!
عمليا، لا تلائم أهداف القانون توريط الدولة باستحداث حلول لا تملك ثمنها، أمام مسؤولياتها الجسام اقتصاديا، وتنمويا، ودفاعيا، وتخلق لها التزامات اقتصادية جديدة فى علاقة عقدية لم تكن طرفا فيها، لتعتصر عصارة المصريين فى إسكان اقتصادى يبدأ بمليون ونصف جم! فطبقا لمدونات البرلمان قبل موافقته، فالدولة غير جاهزة إحصائيا ومساحيا، وبنية تحتية وأسعار اقتصادية تكفى ملايين الأسر الذين سيخرجون للشارع للمطالبة بحق السكن الدستوري!
بل هناك حالات كعقارات الأوقاف الخاضعة لاعتبارات دينية، وطرد المستأجرين منها قد يُحوّل “الوقف” من مؤسسة رحمة وتكافل لأداة طرد واستثمار! فالمُشرّع فرض إرادة جديدة على متعاقدين لم يطلبوها (وحسمتها أحكام دستورية ونقض)، لتنقض إرادته العقد، بقانون وتعجز واقعيا عن بديل أوقع يلائم أزمة اقتصادية، ودخل تحت الصفر، ومدخرات مستنزفة وسيولة منتحرة!
قد يحقق القانون عدلا لفئة تُحترم، ولكنه سيبدأ عهد التفريغ السكانى لصالح الرؤية العمرانية للنخبة على حساب الملايين، فالإخلاء لن يكون عارضا، بل إستراتيجية ممنهجة لتطوير ظاهرة أطفال الشوارع لـ”مستأجرى الشوارع”، بخريطة سكنية مشوّهة جديدة تقود للاستيلاء على الشوارع والساحات، وموجات جديدة من العنف الاجتماعي، وأزمة أمنية للدولة نفسها لحماية الملك العام أمام واقع المشردين قسرًا بقوة القانون!
عندما حررت البرازيل سوق الإيجار بالتسعينيات دون حماية للسكان الفقراء، تفجرت ظاهرة الفافيلا (مدن الصفيح وانتشرت) والجريمة وتعافوا بعد 20 سنة! كذلك بفرنسا 1789 والملاك ورجال الدين يملكون نصف الأراضى دون ضرائب، والعامة يتحملون العبء، لينتهى الأمر بثورة فرنسية دموية استمرت بفوضى 25 سنة قبل الاستقرار!
ا.القضية الحقيقية أن تمرير هذا القانون بصيغته الحالية، بدون شبكة حماية اجتماعية صلبة وآليات ضبط للملّاك الجدد، ليس مجرد تعديل تشريعي، بل رهان على توازن اجتماعى هش قد ينهار فجأة، ولحظتها، لن تُسأل وزارة الإسكان، بل ستكون الدولة كلها فى مواجهة العاصفة!
والأخطر تنفيذيا، أن الجيش والداخلية نفسهما من المصريين الخاضعين للقانون نفسه، وهم أنفسهم المطالبون بتنفيذه أو تأمين الدولة ضد عواقبه، فمن سيحرس الحرس؟
واقعيا فإن تعريض المصريين لبداية عهد الريفييرا المصرية، بإخلائهم من مهاجعهم لمجرد الجبر الاقتصادى بغير توقيته أو ضوابطه، سيكون مرهونا بمدى قدرة الدولة – المأزومة اقتصاديا حاليا -على تنفيذ التعديلات دون المساس بالسلم الاجتماعى أو الحق فى السكن! وليس بالاستجابة للمستفيدين الحقيقيين، ووعود الإصلاح والتطوير ولو بالتشريد، وتجريف آخر لبنة فى أمان المصريين!
لا تصادق سيدي! ودع مصر تلتقط أنفاسها لا تلفظها! حرر الأجرة تدريجيًا، بما يتمشى مع زيادة الرواتب والمعاشات، وآلزم المستأجرين بالمشاركة فى صيانة العقار لا الإخلاء. احفظ الامتداد لجيلين (تقريبا كل المستأجرين الأصليين توفوا، والجيل الأول المستأجر الفعلى فى نهايته)، واستعد حرية التعاقد بعدها. أكمل ستر المصريين بالمعاوضات لا بالطرد.
لا تصادق سيدي، حتى لو منحوك وعودًا من ذهب. أترى حين يُقض منا مضاجعنا وتُستبدل بورقة… هل ننتعش؟ هى أشياء لا تُشترى!
صافح شعبك بعهدك، فإنك للعهد مُتبع.
* محامى وكاتب مصرى
