استراتيجية عجيبة وإدارة فريدة 2
أتصور أن التخطيط الإستراتيجى السليم عملية تمر بعدة مراحل، يقتضى أولا جمع معلومات وتحليل وقراءة المشهد الإقليمى والأوضاع الدولية واتجاهات السياسة والتجارة والاقتصاد والتكنولوجيا والنزاعات الدولية الموجودة والمحتملة، وتحليل المشهد الداخلي، نقاط قوته ونقاط ضعفه، والتفكير فيما يجب عمله للنهوض به وتقويته أو منع تدهوره، ثم يقتضى ثانيا التفكير فى خيارات، وبيان مزايا وعيوب كل منها، وعرض بدائل على القيادة لتختار ما تراه صائبا، وطبعا يحق لها محاولة الجمع بينها كلها أو بعضها، كما يحق لها تجاهلها.
بيد أن الواقع يشهد وجود مقاربة أخرى للتخطيط الاستراتيجي، أو لخطاب وسياسات تدعى أنها تخطيط إستراتيجي، وهى مقاربة تفترض أن الزعيم القائد ملهم، دائما على حق، وأن عمل خبراء الإستراتيجية هو إيجاد صياغة تؤكد هذا، وترسم سياسات بناء على رؤية هذا الزعيم، أو بناء على مقولات يحب ترديدها، وتحاول تحييد أو تجاوز التناقضات إن كان كلام الزعيم غير منطقى ومتناقض. وأشير إلى أن رؤية الزعيم قد تكون فعلا ثاقبة، وتصوراته فعلا طموحة وسليمة، وقد تكون فى المقابل شديدة التفاهة والغباء، أقصد أن المقاربة التى تنطلق من رؤية الزعيم وليس من الواقع قد تؤدى إلى نتائج جيدة وإن لم يكن هذا هو الأصل.
وأحب أن أؤكد أمرًا آخر... لا علاقة بين ما سبق وطبيعة النظام السياسي، قد نجد نظاما سلطويا يجيد ويتقن التخطيط البادئ بقراءة تسعى إلى الموضوعية، وقد نجد فى أنظمة ديمقراطية تخطيطا ينطلق من تصورات القائد الذى يدعى إلهامه ويصوغ خطابا عقلانيا أو شبه عقلانى يؤسس أو يحاول لتصورات القائد.
وقد أكون مخطئا، ولكننى أرى أن الصين تتبنى المقاربة المذكورة فى الفقرة الأولى للمقال، وأن كلًا من الحكم الحالى فى روسيا والإدارة الأمريكية الحالية منخرطين فى المقاربة الثانية، تنفذ رؤية رجل واحد وتحاول صياغة سياسات تتفق وهذه الرؤية، وتقوى بنيانها وتماسكها.
قد يقول القارئ إن كلامى السابق ينطوى على أحكام انطباعية تكشف رفضا لخيارات واشنطن وموسكو، والرد على هذا هو أننى أقر بأننى أرفض فعلا هذه الخيارات، لن أنكر هذا، ولكن رصد أداء وأساليب عمل الأنظمة السياسية ونخبها يدعم تشخيصي، وأضيف إلى هذا أن هناك بدائل للسياسات الحالية تبدو أحسن بكثير، وأن اختيار كلًا من الدولتين لمسلكها الحالى يعود فى شق كبير منه إلى تفضيلات القيادة وهى تفضيلات تبدو لى معيبة، وعندما أقول معيبة لا أقصد أنها تضر مصر أو المنطقة أو العالم، بل أقصد أنها تضر بالبلاد صاحبة هذه السياسات.
إشارة سريعة إلى إستراتيجية روسيا لأنها ليست موضوع هذه السلسلة، هناك فكر إستراتيجى رفيع المستوى بالغ الثراء فى المؤسسات الروسية، يقرأ الواقع قراءة لها وجاهة، والخط العام الحاكم له هو كيفية تحقيق المصالح والأهداف وإضعاف أو هزيمة الأعداء دون اللجوء إلى حرب تقليدية أى مع تفادى مواجهة مسلحة تقليدية كبيرة، وفى عبارة أخرى فإن قرار غزو أوكرانيا لا يمكن إرجاعه ولا تفسيره بالتراث الإستراتيجى الروسي، والصياغات التى حاولت تبرير هذه الحرب هى صياغات “تشرعن” رؤية الزعيم وسياساته.
نعود إلى الإدارة الأمريكية الحالية، هناك من يرى أن تحركاتها تأتى تنفيذا للتصورات الإستراتيجية لإيلبريدج كولبي، نائب وزير الدفاع للسياسات، وهو يرى أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تعمل بفعالية فى كل المسارح التى تشهد نزاعات وأن عليها التركيز بشدة وبسرعة على المسرح الصينى أو مسرح المحيطين الهادى والهندي، وأن هذا التوجه يفسر سياساتها الحالية فى أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، الرامية إلى حل سريع للنزاعات حلا يسمح بالتمحور حول آسيا.
وتبقى على الأقل المشكلة... على فرض أن الاستعداد لمواجهة الصين هو التوجه، ما حكمة التنمر على اليابان وكوريا الجنوبية ودول «آسيان»؟ هل التوقيت مناسب؟
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
