كتب ـ محمود الحلفاوي:
فى عصر العولمة الرقمية، تطورت الأساليب القديمة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب بشكل كبير، وظهرت أساليب أخرى حديثة أكثر تعقيدًا وأكثر خفية، حيث استغل المجرمون والإرهابيون التكنولوجيا الحديثة والثغرات القانونية لتنفيذ عملياتهم بشكل أكثر تعقيدًا بحيث يصعب تتبُّعهم أو متابعة عملياتهم. وأصبحت هذه الجرائم تشكل تهديدًا خطيرًا للأمن الاقتصادى والاستقرار العالمى، مما يتطلب تطوير آليات رقابية أكثر ذكاءً لمواجهتها وتكون على نفس الدقة والسرعة والتطور.
كيف يتخفى غسل الأموال وتمويل الإرهاب خلف التقنية الحديثة؟
ويمكن القول إن أحدث أساليب غسل الأموال يتمثل فى الاستخدام المتطور للعملات الرقمية والمشفرة، حيث أصبحت هذه العملات المشفرة - مثل البيتكوين والإيثريوم - وسيلة مفضَّلة لغاسلى الأموال بسبب اللامركزية فيها وصعوبة تتبُّع تلك المعاملات، وإمكانية التحويل عبر الحدود بسرعة ودون رقابة كافية عن طريق Blockchain أو سلسلة الكتل، وكذا استخدام منصات التبادل غير المرخصة (Dark Web Exchanges) لتبييض الأموال، ويُعد الاستثمار فى الأصول الرقمية والافتراضية من أحدث أساليب وجرائم غسل الأموال، ويشمل ذلك شراء وبيع القِطع الفنية الرقمية (NFTs)وسيلةً لتحويل الأموال غير المشروعة، واستغلال العوالم الافتراضية (الميتافيرس) فى عمليات بيع وشراء وهمية لغسل الأموال، كما تُعد التجارة الإلكترونية الوهمية مثل إنشاء متاجر إلكترونية وهمية تُظهر مبيعات ضخمة، بينما تكون فى الحقيقة مجرد واجهة لتحويل الأموال، والتلاعب بأسعار المنتجات (مثل بيع سلع رخيصة بقِيم مُبالغ فيها) لتمرير الأموال المغسولة - يُعد ذلك كله أحدث وسيلة لجريمة غسل الأموال، وأخيرًا يمكن القول إن غسل الأموال عبر الخدمات المالية التقنية (FinTech ) مثل استغلال شركات التكنولوجيا المالية (FinTech)التى تقدم خدمات تحويل سريع دون متابعة كافية، واستخدام المحافظ الإلكترونية غير المرتبطة بهوية حقيقية فى عمليات غسل الأموال.
أما عن الأساليب الحديثة فى تمويل الإرهاب فتشمل التمويل عبر التبرعات الخيرية المزيفة، مثل إنشاء جمعيات خيرية وهمية لجمع التبرعات التى تُوجَّه لدعم العمليات الإرهابية، واستغلال منصات التمويل الجماعى (Crowdfunding) مثل “GoFundMe” و”Patreon” وغيرهما من المنصات، والاستفادة من الاقتصاد غير الرسمى فى تحويل الأموال عبر أنظمة الحوالات غير الرسمية (مثل نظام الهاوالا)، واستخدام تجارة الذهب والمجوهرات غطاءً لتمويل الإرهاب بسبب صعوبة تتبُّعها، ويُعد التمويل عبر الجرائم الإلكترونية مثل القرصنة والابتزاز الإلكترونى (Ransomware) لجمع الأموال، وسرقة البيانات المالية وبيعها فى الإنترنت المظلم (Dark Web).
أما عن تحديثات مواجهة هذه الأساليب الحديثة فهى التحايل على القوانين الدولية بسبب اختلاف التشريعات بين الدول، وصعوبة تتبُّع المعاملات المشفرة لغياب هوية واضحة للمتعاملين، ونقص الخبرة التقنية لدى بعض الأجهزة الرقابية فى مواكبة التطورات التكنولوجية، وأيضًا تواطؤ بعض المؤسسات المالية عن قصد أو دون وعى منها فى هذه العملية برُمّتها.
وتتمثل سُبل تعزيز مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب فى تعزيز التعاون الدولى وتبادل المعلومات بين الدول والمنظمات، مثل المنظمة المالية الدولية (FATF) وتوحيد التشريعات لمحاصرة العمليات العابرة للحدود، وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى و”البلوك تشين”، واستخدام الذكاء الاصطناعى لاكتشاف الأنماط المشبوهة فى التحويلات المالية، وتطبيق تقنية “البلوك تشين” لتعقُّب العملات الرقمية، وتشديد الرقابة على قطاع التكنولوجيا المالية، وإجبار منصات العملات الرقمية على التسجيل والامتثال للقوانين KYC وAML ومراقبة المدفوعات الإلكترونية والتحويلات الفورية لحظة بلحظة، وأخيرًا زيادة الوعى والتدريب للعاملين فى البنوك والمؤسسات المالية على كشف العمليات المشبوهة، وأيضًا توعية الجمهور بمخاطر الاستثمار غير المرخص والاحتيال الإلكتروني.
ولعلّ أشهر جرائم غسل الأموال يتمثل فى فضيحة بنك بنما بيبرز عام 2016 حيث تُعد أكبر عملية تسريب للبيانات المالية فى التاريخ، حيث تم استخدام شركات وهمية فى “ملاذات ضريبية”، مثل بنما وجزر العذراء، وتورَّط مشاهير وسياسيون ورؤساء دول، ومنهم رئيس وزراء آيسلندا الذى استقال بسبب الفضيحة، واستُخدمت شركات “أوفشور” وهمية لإخفاء ملكية العقارات والأصول، وكشفت الوثائق المسرَّبة عن شبكة عالمية من التهرب الضريبى وغسل الأموال.
وأيضًا تُعد فضيحة MDB الماليزية عام 2015، حيث تمت سرقة مليارات الدولارات من الشعب الماليزى، وقُدّرت الأموال المغسولة حينها بــ 4.5مليار دولار من صندوق الثروة السيادية الماليزى، حيث تم تحويل الأموال عبر حسابات فى سويسرا وسنغافورة ولوكسمبورغ، وتورط رئيس وزراء ماليزيا السابق نجيب رزاق، الذى حُكم عليه بالسجن 12 عامًا، واستُخدمت الأموال فى شراء يُخوت فاخرة ومجوهرات ولوحات فنية؛ منها لوحة لـ”بيكاسو” اشتراها الممثل “ليوناردو دى كابريو” (ثم أعادها).
وختامًا، نقول إن مكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب فى العصر الرقمى تتطلب تضافرًا للجهود المحلية والدولية على حد سواء، ومواكبة التطورات التكنولوجية بآليات رقابية أكثر ذكاءً. بينما يصبح المجرمون أكثر ابتكارًا، يجب أن تكون أجهزة الرقابة والمؤسسات المالية دائمًا سابقة بخطوة لحماية الاقتصاد العالمى من هذه التهديدات الخفية.
