خواطر مواطن مهموم 299

الارتباط الوثيق بين اقتصادات دول قد تُحارب بعضها البعض غدا ليس أمرًا جديدًا تمامًا،

توفيق اكليمندوس
Ad

عن الاستراتيجية العجيبة لهذه الإدارة الفريدة (1)

الإستراتيجية عجيبة، والإدارة فريدة، والمرحلة الحالية جديدة. نعم، العالم عرف فى القرن التاسع عشر عالمًا متعدد القطبية يشبه فى أمورٍ النظام العالمى الحالى.لكن الفروق هائلة، هناك سلاح فتّاك يغير طبيعة الحرب، وهناك تكنولوجيا تمنح القدرة على استهداف الداخل فى كل دولة وعلى شَلّه، لا توجد دولة تستطيع أن تزعم أن موقعها الجغرافى يحميها من أى هجوم، ومن ناحية أخرى نحن على أعتاب ثورة تكنولوجية لم يسبق لها مثيل، لا يفهم أحد أبعادها، ولا يضبط أحد سرعة إيقاعها، ستخلق فرصًا وستوجِد تهديدات، وتقضى على مئات الملايين من الوظائف، كل المجتمعات تتعرض لتأثيرات خارجية تتسبب فى نجاح أو فشل أى خطة اقتصادية، وتغير ثقافة أبنائها تغيرات يصعب رصدها وفهم دلالاتها، الرأى العام يؤثر على عملية صنع القرار فى كل الدول؛ ديمقراطية كانت أم سلطوية.

الارتباط الوثيق بين اقتصادات دول قد تُحارب بعضها البعض غدا ليس أمرًا جديدًا تمامًا، كانت هذه هى الحال سنة 1914، ولم يمنع عمق العلاقات بين الفرقاء اندلاع حرب عالمية شرسة، لكن هذا الترابط لم يكن موجودًا أثناء الحرب الباردة، والحرب العالمية الأولى تُذكّرنا بأنه لا يكفى لضمان السلام.

كل هذا... وغيره... يفرض على الكل أداء سياسيًّا رفيع المستوى، ورؤية إستراتيجية ثاقبة ومرنة تستطيع أن تستجيب بسرعةٍ للمستجدّات، وعلاقة جديدة مع الأيديولوجيات والعقائد السياسية، تستعين وتسترشد بها ولا تكون أسيرة لها، وغيرها من الأمور التى لا أجد لها حاليًّا أثرًا فى عدد كبير من العواصم؛ منها واشنطن وموسكو.

بالمناسبة استمعت إلى بودكاست، قالت فيه المتحدثة وهى كادر كبير فى «الناتو»، إن ست دول فقط من الـ32 عضوًا فى الحلف، لها باعٌ فى التحليل والتنبؤ الإستراتيجيين، وقالت إن أكثرهن تقدمًا فى هذا، ودون منازع، فنلندا، تليها الولايات المتحدة، ثم فرنسا والمملكة المتحدة، ثم إسبانيا والبرتغال... أما باقى الأعضاء... فمتأخرون جدًّا... ويلاحَظ أن ألمانيا وإيطاليا وبولندا... وهى دول ليست قليلة الشأن... جزء من هذا «الباقي».

السؤال الذى يفرض نفسه على كل المهتمين بالعلاقات الدولية هو... هل من إستراتيجية أمريكية؟ أو على الأقل هل من مبادئ عامة تؤطّر سياستها الخارجية؟ هل التناقضات التى يرصدها الكل حتمية تعود إلى تعدد وتعقُّد المصالح الأمريكية ولا يمكن تفاديها، أم هل هى نتيجة تعدد وجهات نظر أهم القائمين على الأمور؟ أم هى سوء أداء ورعونة بعض مسئولى هذه الإدارة وتصوراتهم الساذجة، بل التافهة عن الوضع الدولى وكيفية التعامل معه؟

وسؤال آخر هو... هل تصريحات المسئولين تعكس حقيقة الأفعال، أم هى للاستهلاك الداخلي؟ وحتى لو كانت للاستهلاك الداخلى هل يمكن القول إن هذه التصريحات لا تترك أثرًا فى نفوس وسلوك الفرقاء؟ وهل هذا الأثر مقصود لذاته أم لا؟

بعض زملائى المصريين يرون أن الرئيس الأمريكى يتعمد قلب المائدة، وخلط الأوراق، وقول شيء ثم عكسه، والجمع بين التهديدات المُهينة والدعوة إلى التفاوض، وأنه يتبنى تكتيكًا أدخله الرئيس نيكسون وهو «نظرية الرجل المجنون»، التى ترى أن استحالة توقع سلوك القائم على الأمر فى واشنطن تُربك الأعداء والمنافسين، وتُعظم من مكاسب الولايات المتحدة. لستُ مقتنعًا بهذا الكلام؛ لأسبابٍ، منها أن هذا السلوك يُربك الحلفاء والشركاء قبل الأعداء، ويُضعفهم قبل إضعاف الأعداء، ومنها أن هذا «تكتيك» وليس إستراتيجية، ومنها أن سلوك الرئيس اتسم بقدر من الاستمرارية فى عدد من الملفات المهمة.

هناك مشكلات فى تحديد تصورات الرئيس عن النظام الدولى، هل يرى أن أمريكا تتجه إلى مواجهة مع الصين؟ هل يرى أن تحقيق السلام العالمى يقتضى تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ ؟ عالم تتصرف فيه كل دولة كبرى كما تشاء فى المنطقة الخاصة بها؟ ما غرض أو أغراض الحرب التجارية؟

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية