عن احتمال وجود استراتيجية أمريكية
يبدو أحيانًا أن الرئيس ترامب يتحرك وفقًا لإستراتيجية مدروسة تُمليها تطورات المشهد العالمي، هذه الإستراتيجية هى “التمحور فى آسيا” وفى منطقة المحيطين الهندى والهادي، للاستعداد لمواجهة الصين، والوقت تأخّر، الصين تكثف جهودها فى عدة مجالات؛ منها القوة البحرية، والترسانات الأمريكية عاجزة عن مُلاحقة الترسانات الصينية.
صعود الصين فى كل المجالات يعنى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على خوض حربين كبيرتين فى مسرحين مختلفين، أو لن تكون قادرة على هذا فى مستقبل قريب، وعليها، من ثم، ترك الدفاع عن أوروبا للأوروبيين، وعليها تهدئة وتثبيت الوضع فى الشرق الأوسط، إما بالتخلص من إيران، ويبدو هذا صعبًا، أو الحد من خطرها، دون تمكين أى طرف إقليمي- بما فيهم إسرائيل وتركيا- من الهيمنة الكاملة على المنطقة.
وعُقدت قمة “الناتو” فى أواخر يونيو، وتعهدت كل الدول الأعضاء برفع إنفاقها على الدفاع ليصل إلى %5من الناتج المحلى الإجمالي، وتمت صياغة بيان نهائى أشار بوضوح إلى التهديد الروسي، ولم يفجّر الرئيس ترامب مفاجآت جديدة، ولم تتصدر مسألة دعم أوكرانيا جدول الأعمال... وتسابق عدد من القادة الأوروبيين فى كَيْل المديح للرئيس الأمريكى فى مشهد مُخزٍ، وبدا أن كل شيء على ما يرام، وأن الحلف قادر على ممارسة مهامه... منها الاستعداد لصراع العقد الرابع من القرن... فى بحر البلطيق والمحيط الشمالي.
وبعدها بأسبوع، أوقف الرئيس ترامب الدعم لأوكرانيا، وهذا القرار يعود غالبًا إلى كراهية الرئيس ترامب للرئيس زيلينسكي، أولًا وثانيًا وثالثًا، ورابعًا إلى تأثير حرب إسرائيل ضد إيران على مخزون السلاح الأمريكي.
دعونا ندقق، نعم وعد الأوروبيون- باستثناء إسبانيا- برفع الإنفاق الدفاعي، لكن السؤال الذى يفرض نفسه... هل يستطيعون هذا؟ الرد هو... ربما تستطيع ألمانيا، لكن فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وغيرهن سيعجزن عن الاقتراب من هذا الرقم، أى أن الاتفاق الذى تم التوصل إليه يعكس إدراكًا لضرورة ماسّة ويسمح للرئيس ترامب بالتباهي، ونعم سيرتفع الإنفاق الدفاعي، ولكنْ بقدر أقل بكثير.
وتبقى معضلة... المال لا يكفى لتطوير مؤسسة عسكرية، استرداد المهارات الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية وتدريب الرجال وصياغة العقيدة العسكرية وتنشيط المصانع الحربية وتوفير العمالة المدرَّبة، كل هذا يستغرق وقتًا. وعلى فرض أن الدول الأوروبية فعلًا جادّة فى مسعاها فهى لن تكون جاهزة قبل منتصف العقد المقبل. وبما أن الوقت تأخّر كثيرًا فى آسيا، لن تستطيع الولايات المتحدة الانتظار إلى أن تكون أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها.
وهنا يظهر الخلل الواضح فى تفكير الإدارة الأمريكية الجديدة، هناك حل لهذه المعضلة يستبعده الرئيس ترامب دون أى سبب وجيه، وهو الاعتماد على جيش قوى شديد البأس له خبرة عملياتية ضخمة، الجيش الأوكراني، مكان هذا الجيش فى «الناتو»، ويمكن طبعًا التخلى عن هذا الخيار فى مفاوضات إن حصلت واشنطن على مقابل، ولكن الإدارة قدمت تنازلًا مجانيًّا فى هذه المسألة لروسيا سابقًا على المفاوضات ولم تحصل على شيء.
ومظهر آخر لخلل المقاربة هو السعى الأمريكى الدءوب إلى إضعاف أوروبا، بشن حرب تجارية ضدها، وإبداء مطامع فى جرينلاند، وتقديم تنازلات لموسكو.
هناك تفسير ممكن لسلوك الرئيس الأمريكي، وهو احتمال أن يكون هدفه الحقيقى إسقاط كل الحكومات الليبرالية الأوروبية ودعم أحزاب أقصى اليمين، وإضعاف، وربما تفكيك الاتحاد الأوروبي، ومنطق هذه المقاربة هو أن التعامل مع كل دولة على انفراد سيحقق مكاسب أكبر للولايات المتحدة.
المآخذ على أداء أوروبا لا تُعد ولا تُحصى، وفساد مقارباتها فى أغلب الملفات واضح، لكن الرئيس الأمريكى يبدو عاجزًا عن فهم أن إضعاف أوروبا هو إضعاف للولايات المتحدة، وأن الشك فى الضمانة الأمريكية سيدفع عددًا من الدول إلى مهادنة الصين وموسكو، وعددًا آخر إلى امتلاك السلاح النووي. أما وَهْم إمكان فك التحالف الروسى الصيني... فهو وَهْم.
*أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
