بعد عقود من الحياد الحذر.. فنلندا «المسالمة» تدخل سوق التسلح بقوة

Ad

في تحول لافت على خارطة الأمن الأوروبي، تخلت فنلندا عن إرث الحياد العسكري الذي تمسكت به منذ الحرب العالمية الثانية، لتصبح واحدة من الدول الأوروبية استثمارًا في التسلح، وبينما تعكس هذه التحركات قلقًا متزايدًا من الجار الروسي، فإنها تعيد صياغة دور فنلندا في المعادلة الجيوسياسية الإقليمية.

فمع تزايد التوترات الإقليمية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، اتخذت فنلندا خطوات غير مسبوقة لتدعيم حدودها الشمالية الشرقية مع روسيا، في تحرك يعكس تحولا جذريا في سياساتها الأمنية والاقتصادية، وقد أعادت هذه التطورات أجواء الحرب الباردة إلى الواجهة، خاصة على طول الحدود التي تمتد1340كيلومترا، وهي الأطول بين روسيا وأي دولة أوروبية، وفقا لتقرير نشرته وكالة “رويترز”.

تحول أمني على الحدود

بعد انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أعقاب الحرب الأوكرانية، شرعت فنلندا في تعزيز وجودها العسكري بشكل واضح في بلدة لابينرانتا، الواقعة على بُعد160كيلومترا من سان بطرسبورغ، وكان الجندي الاحتياطي الفنلندي “ياني لاتّو” يختبر طائرة مسيرة من طرازParrotAnafi، مستخدمة في جيوش الناتو، وقد حصلت مجموعته “لوريتسالا للمجندين الاحتياطيين” على تمويل لشراء عشر طائرات مسيرة إضافية، كجزء من استعدادات متنامية لردع أي تهديد محتمل.

وأكد لاتّو، رجل الأعمال الذي يدير ورشة لصناعة اللوحات الإعلانية، أن الغزو الروسي لأوكرانيا غيّر تماما نظرته لروسيا، مذكرا بمحاولات الاتحاد السوفييتي غزو فنلندا خلال الحرب العالمية الثانية، وتنازل بلاده حينها عن10% من أراضيها، بما فيها بلدية “آيرابايا” التي قُتل فيها جده عام1944.

تعزيزات دفاعية وتوسع في القدرات

فنلندا تستضيف حاليا مقرًا جديدًا للقيادة الشمالية لحلف “الناتو” في مدينة ميكيلي، ويضم حوالي50ضابطًا من دول منها الولايات المتحدة وبريطانيا، بالتنسيق مع قيادة الجيش الفنلندي، وصرّح العميد كريس جنت من قيادة القوات البرية في الحلف، بأن هذه القاعدة ستضطلع بدور محوري في حال نشوب نزاع.

وتسعى فنلندا إلى رفع عدد جنودها الاحتياطيين إلى مليون بحلول عام2031، عبر رفع سن التجنيد إلى65عامًا، ما يضيف نحو125.000جندي إضافي لقواتها، وتخطط أيضا لتحديث أسطولها الجوي بشراء64مقاتلة أمريكية من طرازF-35، كما تمتلك بالفعل أكبر ترسانة مدفعية في أوروبا الغربية.

التجارة والسياحة.. من الانتعاش إلى الجمود

حتى وقت قريب، كانت المناطق الحدودية الفنلندية – خاصة مدن مثل لابينرانتا وإيماترا – تستفيد من حركة تجارية نشطة مع روسيا، شملت السياحة وشراء العقارات والخدمات الطبية، ما ساهم في تحفيز اقتصاد محلي يقدّر بنحو5.5مليار يورو سنويا.

غير أن قرار الحكومة الفنلندية إغلاق جميع المعابر الحدودية الثمانية مع روسيا أواخر2023- بسبب ما وصفته بـ”استغلال روسيا للهجرة غير الشرعية كسلاح جيوسياسي” - أدى إلى توقف كامل في حركة السياحة والتجارة عبر الحدود، مما تسبب في خسائر مباشرة تقدّر بـ300مليون يورو سنويا، وفقًا لتقديرات مجلس المنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد.

ارتفاع نسبة البطالة وتراجع الأنشطة المحلية

أدى غياب الزائرين الروس، الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للنشاط التجاري في المدن الحدودية، إلى ارتفاع معدلات البطالة لنحو %15أي أكثر من ضعف المتوسط الوطني، وأغلق عدد من المتاجر والمطاعم، بينما اضطر أصحاب الأعمال الصغيرة مثل (محال التحف، والمنتجعات الصحية، والمجمعات التجارية) إلى البحث عن بدائل مثل التجارة الإلكترونية لتعويض تراجع الطلب.

يقول “ياني تارفاينن”، صاحب متجر للتحف: “كنا نشتكي من ازدحام الروس في المطاعم ومواقف السيارات، لكنهم كانوا يضخّون المال في اقتصادنا. الآن، كل شيء أصبح هادئا وتسود حالة من القلق.

قيود جديدة على الاستثمارات والتملك

ضمن سياسة الردع الاقتصادي، فرضت فنلندا قيودا مشددة على الاستثمارات الروسية داخل أراضيها، شملت حظر تملك العقارات من قبل المواطنين الروس، ومنع مزدوجي الجنسية (الفنلنديين - الروس) من استخدام الطائرات المسيّرة، وسط مخاوف أمنية من عمليات مراقبة أو تجسس.

كما علّقت الحكومة الفنلندية العمل بعدة اتفاقيات تعاون اقتصادي وتجاري كانت تُدار عبر غرف التجارة المشتركة مع موسكو، وذلك في إطار تقليص الانكشاف على الاقتصاد الروسي، وتقليل الاعتماد على التعاون الثنائي في ظل التوترات الجيوسياسية.

تحولات في سياسة الطاقة واللوجستيات

على صعيد الطاقة، كانت فنلندا تعتمد بشكل محدود على واردات الغاز الروسي، لكنها سرعت من وتيرة التحول إلى مصادر بديلة، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة والنرويج، كما عززت استثماراتها في مشروعات الطاقة المتجددة والبنية التحتية اللوجستية، لتعويض الاعتماد التاريخي على الربط مع الشبكات الروسية.

ضغوط على الأسر والروابط العائلية

على المستوى الإنساني، تأثرت حوالي38000حالة من مزدوجي الجنسية (الفنلندية-الروسية)، الذين أصبحوا عاجزين عن زيارة أقاربهم في الجانب الآخر من الحدود، وتشير منظمات مدنية محلية إلى ارتفاع الضغوط النفسية والاجتماعية نتيجة انقطاع الروابط العائلية، وسط مساعٍ قانونية يجري النظر فيها على مستوى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان للطعن في قرارات الإغلاق.

الحدود تتحول إلى ساحة رمزية للحرب الباردة الجديدة

مع بدء فنلندا بناء جدار حدودي بطول200كيلومتر وبارتفاع4.5متر مزوّد بكاميرات وأجهزة استشعار، يتغير الطابع الاقتصادي للحدود إلى طابع أمني، وأصبح الطريق السريعE18الذي كان يربط هلسنكي بسان بطرسبورغ ينتهي عند حواجز معدنية مغلقة، في مشهد يكرّس ما وصفه مسئول في حرس الحدود الفنلندي بأنه “انتقال من عصر إزالة الحدود إلى عصر إعادة رسمها.”

ووفقًا لتقارير صادرة عن وزارة الدفاع الفنلندية، فإن فنلندا تتوقع أن تعزز روسيا وجودها العسكري في منطقة لينينغراد بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا، ما يرشح استمرار القطيعة الاقتصادية وتجميد الاستثمارات لعقود مقبلة، في غياب أي أفق لحلحلة سياسية.

وتعليقاً على ذلك، قالت مينا آلندر، الباحثة في “تشاتام هاوس”: فنلندا لا تسعى لمواجهة، لكنها تريد إرسال رسالة واضحة لموسكو بأن أي تحركات عدائية ستكون مكلفة، مشيرة إلى أن المشهد الآن لا يتجه نحو استقرار قريب.

في ظل المشهد الراهن، لم تعد فنلندا تنظر إلى روسيا كشريك اقتصادي، بل كجار غير موثوق به، ويتجه الطرفان نحو فك ارتباط اقتصادي طويل الأمد، تقوده اعتبارات الأمن القومي والتحالفات العسكرية الجديدة، في ظل بيئة دولية تتسم بعدم اليقين واحتمالات التصعيد المستمر، إذ تبدو حدودها الشرقية وقد تحولت من منطقة تبادل وتعاون، إلى جبهة فاصلة في صراع جيوسياسي تتسارع وتيرته كل يوم.

انقسام عائلي وتراجع اقتصادي

لكن هذه التحولات الأمنية لم تأتِ دون كلفة اقتصادية واجتماعية، ففي المنطقة الحدودية التي كانت تعج بالحركة التجارية والسياحية، تراجع عدد الزوار الروس من13مليون سنويا إلى الصفر، بعد أن أغلقت فنلندا الحدود أمام المسافرين بسبب ما وصفته بـ”استخدام روسيا للهجرة كسلاح”، وانخفض النشاط في الأسواق والمطاعم، وبلغت الخسائر الاقتصادية السنوية نحو300مليون يورو من اقتصاد إقليمي حجمه5.5مليار يورو، وفقا لمجلس المنطقة، كما ارتفعت معدلات البطالة إلى نحو15%، متجاوزة المعدل الوطني.

وقالت أوكسانا سيريبرياكوفا، وهي روسية من أصول فنلندية انتقلت إلى لابينرانتا مع ابنها، إن قرار إغلاق الحدود “قسم العائلات”، بقي زوجي وابني الأكبر في موسكو، والحكومة كان بإمكانها معالجة المشكلة من خلال إجراءات أكثر دقة مثل عمليات تفتيش صارمة بدلا من الإغلاق الكلي.

إعادة رسم الحدود

في السابق، كانت الحدود بين فنلندا وروسيا بالكاد مرئية، وغالبا ما كانت تُحدد بواسطة أعمدة أو حواجز بسيطة لمنع الحيوانات من العبور، مع دوريات محدودة، أما اليوم، فتبني فنلندا سياجا فولاذيا بطول200كيلومتر وبارتفاع4.5متر، مزود بكاميرات وأجهزة استشعار للحركة، وترافقه طريق ترابية جديدة لتسهيل حركة الحرس الحدودي.

وقال صامويل سيلجانين، رئيس العمليات في حرس الحدود الفنلندي: انتقلنا من حقبة إزالة الحدود إلى مرحلة إعادة رسمها بالكامل.

كما أغلقت فنلندا جميع المعابر الحدودية الثمانية المخصصة للمسافرين مع روسيا إلى أجل غير مسمى، بعد تدفق مهاجرين غير موثقين في عام2023، وهي خطوة اعتبرتها هلسنكي بمثابة رد روسي على انضمامها للناتو.

تحركات روسية وردود حذرة

في الجهة المقابلة، أظهرت صور الأقمار الصناعية أن روسيا بدأت في إعادة تفعيل بعض قواعدها العسكرية العائدة للحقبة السوفيتية قرب الحدود الفنلندية، بما في ذلك بناء مستودعات جديدة، إلا أن مسئولًا حكوميًا فنلنديًا قال: إن هذه الأنشطة “محدودة” ولا تُشكل تهديدا فوريا.

من جهته، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه لا يخطط لمهاجمة “الناتو” ولا يرى في تعزيز الحلف العسكري تهديدا، مشيرا إلى أن بلاده ستعزز قدراتها في المناطق الغربية والشمالية الغربية ردًا على توسع الحلف.

إشارات ردع ورسائل مزدوجة

تسعى فنلندا إلى إرسال رسالة واضحة إلى موسكو، حسب ما أكدت مينا آلندر، الباحثة في “شاتام هاوس”، والمتخصصة في الأمن الأوروبي، إذ قالت: من المهم أن نُظهر بشكل موثوق أن الأمر لا يستحق المخاطرة، فنلندا لا تُشكل تهديدا لروسيا، و”الناتو” لن يبادر بالهجوم، وروسيا تدرك ذلك جيدا.

ورغم التطمينات المتبادلة، فقد أشار تقرير حكومي فنلندي صدر في نهاية العام الماضي إلى “مخاطر متزايدة لنشوب صراع مسلح”، لافتا إلى تعزيز روسيا لقدراتها العسكرية منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وسعيها لإنشاء منطقة عازلة تمتد من القطب الشمالي إلى جنوب أوروبا.

وفي ظل التصعيد الإقليمي المستمر، اتخذت فنلندا خيارات استراتيجية واقتصادية صعبة، مفضلة الأمن على الانفتاح التجاري، والاستعداد العسكري على الاستفادة من العلاقات العابرة للحدود.