خواطر مواطن مهموم 296.. مراجعات إستراتيجية القضية الفلسطينية قضية مقدسة وعادلة

Ad

الحرب هى وسيلة لتحقيق الأهداف التى عجزت السياسة عن تحقيقها. ويكون هذا العجز أحيانًا عاكسًا لجنون هذه الأهداف، وفى أحيان أخرى نتيجة فشل أحد الأطراف أو كليهما فى إدارة العملية السياسية، تُجبرنى اهتماماتى الشخصية على متابعة الحوارات والأدبيات الإستراتيجية فى عدد من الدول، والمقارنة بين توصيات البعض والسياسات التى يتم تنفيذها، أو بين مسلَّمات كل “فرقة” من فِرق الخبراء، وأكون ناكرًا للحقيقة إن لم أقل إننى مَدين لكل هذه الأدبيات والفعاليات؛ لأننى أتعلم منها، وأكون مغرورًا وواهمًا إنِ ادّعيتُ امتلاك الحقيقة الكاملة، لكننى أرى أوجه قصور فى تفكير كل فريق، وأرى تأثير الذاكرة والماضى والأيديولوجية، ومسلّمات لم تعد صالحة، والأوهام والقراءات الخاطئة لموازين القوة.

قد يتصور القارئ أن هذا الكلام دعوة مستترة إلى ما يوصف بالانبطاح، وإلى قبول ما لا يمكن قبوله، لكنه ليس كذلك، أُقرّ بأننى أُفضل الوسائل السلمية والحلول السياسية؛ وفى مقدمتها معاهدة السلام بيننا وبين إسرائيل وحل الدولتين، لكننى أعرف أن الحكومات اليمينية الإسرائيلية أغلقت باب الحلول السياسية، وساعدتها فى ذلك بعض فصائلنا. لهذا لا يمكن رفض ولا استبعاد مبدأ المقاومة، ولا رفض حق المظلومين فى سلك هذا المسلك.

هناك واقعٌ ليس من صنع فِرق الاعتدال العربية، وهو أن تبنِّى الثنائية - إما التنازل عن حقوق الفلسطينيين وإما المقاومة كما مُورست فى العقود الماضية - يجبر على قبول منطق التنازل، نظرًا للحصاد المُر للمقاومة.

لكن الثنائية ليست سليمة، لا يمكن قبول الاستسلام فى قضيةٍ تتعلق بحياة ومصير شعب، ولا يمكن التظاهر بعدم رؤية قيام إسرائيل وبعض أهلنا بغلق باب الحل السياسي، ما هو ضرورى هو إعادة النظر فى بعض مسلَّمات إستراتيجية مَن قرَّر المقاومة.

المشكلة ليست فى إقرار مبدأ المقاومة، سلمية كانت أم مسلَّحة، المشكلة فى تصورى هى العجز عن فهم قضية ضبط التصعيد وعن الانتباه إلى أهميتها. يبدو لى أن هناك تصورًا سادَ، يجمع بين عدة مقولات تحتاج إلى مراجعة، يرى بعضنا أن كثرتنا العددية تسمح لنا بتحمُّل خسائر أكبر فى الأرواح من تلك التى يمكن للإسرائيليين تحمُّلها، وقالها صراحةً بعض المُنظّرين، الذين لم ينتبهوا إلى أن إسرائيل قادرة على تدمير شامل، أو على الأقل فرض خسائر تشل تمامًا.

مالَ معسكر المقاومة إما إلى إهمال هذه النقطة، وإما إلى رهانٍ مفادُه أن حجم الخسائر التى يتحملها أى طرف عربى أو إسلامى سيدفع الجماهير الإسلامية إلى فرض قرار الحرب على الحكومات والجماعات المسلّحة، لكن لا أحد يتخذ مثل هذا القرار ضد طرفٍ يمتلك السلاح النووى وقدرًا معقولًا من التأييد الدولي.

إسرائيل تتمتع بوضع خاص يعود إلى الظلم التاريخى الذى لحق اليهود، وتحديدًا إلى المحرقة، وهنا أُذكّركم... العرب لا يتحملون مسئولية هذه الجريمة الألمانية الشنعاء التى لا مثيل لها، وبالعكس كان لبعض رموزهم - العاهل المغربى ومصطفى النحاس وغيرهما - مواقف مشرِّفة مشرقة فى هذا الملف، ولذلك أَعدُّ خطاب “لم تحصل المحرقة وهى اختلاق”، وفى الوقت نفسه “هم يستحقون ما حدث لهم” خطابًا غبيًّا غير أخلاقى يضر قضيتنا ضررًا بليغًا ولا يفيد...

لا أدعو إلى ما وُصف بأنه استسلام وانبطاح... أدعو الفُرقاء المعنيين والأجيال التى ستحمل الراية إلى رسم إستراتيجية مقاومة - مدنية أو مسلَّحة - تمارس ضغطًا قويًّا وتصعب قيام الطرف الآخر بتصعيد مدمر، وتعتمد على خطاب وأفعال تتمسك بأحكام القانون الدولى وتعاليم الأديان - عدم استهداف المدنيين والنساء والأطفال - ويطالب بتنفيذها؛ أى بإنشاء دولة فلسطينية على حدود 67 وبحماية المدنيين، ولا يقوم بدعم غير مقصود للخطاب الإسرائيلي، القائل بأننا نريد ارتكاب محرقة جديدة.

لا يمكن ضمان نجاح مثل هذه الإستراتيجية، لكن الإستراتيجية الحالية لمعسكر المقاومة فشلت لأنها لم تفكر فى كيفية تحييد قدرة الآخر على التصعيد اللانهائي.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية