Ad

فى بدايات خريف 1993 التقيت والمشرف على رسالة الدكتوراه بعد عودتى إلى باريس، وقال لى بصوته الجَهْورى إن المثقفين ينقسمون إلى ثلاث فئات؛ مغفلين متشائمين، ومغفلين متفائلين، هؤلاء معًا يشكلون %95 من الأفراد، و%5 من القادرين على التحليل الموضوعي.

أيامها تصورت أن هذا الكلام يستهدفنى بوصفى من المتشائمين باستمرار، واليوم خطر على بالي، وأنا مقبل على كتابة هذا المقال، أن الرجل لم يقصد غالبًا أى شيء من هذا القبيل، وأن أجواء التسعينيات تفسر حِدة الخطاب، كان الرأى الغالب فى الدوائر الغربية المهتمة بالشأن العام فى حالة نشوة مخبولة بعد انهيار الشيوعية، يتصور أن كل شيء ممكن، وأن التاريخ قال كلمته الحاسمة فيما يتعلق بالنموذج السياسى الاقتصادى الأحسن، وأن هذا النموذج سيعمّ العالم، إما تلقائيًّا، وإما بفضل عمل سياسى نشيط لأنصاره. وكان هناك خطاب عام يمجد اللهو والاحتفال والرقص و«الخفة” بكل معانيها.

وفى المقابل، كانت هناك فِرق صغيرة تدق ناقوس الخطر، العالم غير جاهز للتعامل مع العولمة، الاقتصادات والمجتمعات الغربية معرَّضة لخسارة صناعاتها مع صعود الصين وقرار الشركات الرأسمالية الكبرى نقل مصانعها هناك، والأصوات الآتية من العالم العربى الإسلامى أو من العالم السلافى الأرثوذكسى غير مريحة... إلخ.

وفى أوروبا، كان الطور الجديد لمشروع بناء الوحدة الأوروبية سببًا من أسباب الاستقطاب، بين من يراه ضروريًّا لمنافسة الولايات المتحدة، ومن يراه قائمًا على أسس هشة قد تتسبب فى انهيار؛ أو على الأقل فى شلل كامل ظهرت أعراضه المبكرة فى إدارة حروب البلقان.

وكان المشترك بين الفُرقاء الميل القوى إلى تغليب العاطفة والثرثرة والكلام الفارغ، وسيطرة أحلام أو كوابيس اليقظة على الخطاب. ورغم كلام الأستاذ العملاق ظللت متشائمًا، مع تغير الأسباب مع تطور معرفتى واتصالاتى وحياتى الشخصية، وتدريجيًّا انضم المشرف إلى فريق من فرق التشاؤم.

اليوم، أغلب الزملاء الأوروبيين الذين أَشرفُ بالتواصل معهم متشائمون، ولا يخفى اختلاف المشارب والتوجهات والاجتهادات المشترك بينهم، التحديات جسيمة، ولا الخطاب العام ولا الممارسات ولا السياسات على مستوى الحدث، نسمع كل يوم عددًا من التصريحات الغبية، ونشاهد مشاهد وأنانية فئوية غير لائقة، ونسمع عن قرارات عجيبة تزعم أنها حاسمة، الحكيم منها يظل حبرًا على ورق، والخاطئ منها مفعَّل. النخب لا تُسائل الفرضيات المحركة، وكتب صديق كتابًا عنوانه “عصر الغباء الجديد”.

هناك كمٌّ هائل من الكفاءات فى أوروبا، وهناك حوارات جادة وثرية فى الغرف المغلقة، أعلم صعوبة إدارة مجتمعات بالغة التعقيد، تتعامل مع تقنيات تتغير كل يوم، ومع بنية سكانية مقلوبة، ومع كمٍّ مهول من المعلومات ومن مصادر بثها، ومع تسارع الأحداث، ما يصدمنى هو الفارق الشاسع بين الحديث الراقى فى أعداد كبيرة من المجالس الخاصة، والكلام التافه السائد فى المجال العام.

ولا شك أن هذا الكلام التافه من أهم أسباب انتشار التشاؤم وتراجع الثقة بين الجمهور والنخب، إلى جانب، طبعًا، تفاقم المشكلات والعجز عن التعامل معها.

هل يمكن حصر وتعداد مظاهر الغباء وأسبابه؟ أتصور أن تنوع أشكال الغباء وأسبابه يُصعّب المهمة، وأخشى أن يفسر التركيز على بعضها دون غيرها على أنه كاشف لتحيزات أيديولوجية لشخصى المتواضع، قد تكون موجودة فعلًا، وقد تكون تهمة لا أستحقها.

هناك جملة مأثورة تقول إن العقل يجب أن يكون متشائمًا، فى حين أن الإرادة يجب أن تكون متفائلة، ويعنى هذا فيما أتصور أن التحليل الدقيق دون أوهام يمكّن العمل الإيجابى الرامى إلى تحقيق أكبر نجاح فى ظل المعطيات... لكن هذا الكلام “حلو على الورق”، فى الواقع يؤثر تشاؤم العقل على الإرادة. كُتب لي، طوال حياتي، مقابلة ساسة أوروبيين رفيعى الثقافة عميقى التحليل عالمين بأمور بلادهم وتاريخه، لكن الإحساس بالعجز كان غالبًا، كانت بنية الرواية... لا يمكن تمرير القرارات الضرورية.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية