من 4 مايو 2025 ومقالى الـ45 (من شامبليون إلى ماكرون: آن أوان استرداد الكرامة المصري)، ولم يُسمع ركز لقضية إقصاء نسخة تمثال شامبليون 1875 من الكوليج دى فرانس بباريس، وهو يدعس بحذائه رأس الملك المصرى القديم؟ العديد من الدوائر والبارتولديين – داخل وخارج مصر – يرقبون فتور الهمة، أفول الشعلة، نضوب الكلمة! انضمام المحاولة الجادة للأضابير، فى فك الاستيلاء على سردية التاريخ لصالح الغرب، بجعل الفاتح اللغوى بطلًا، ومن الفرعون المصرى جثة تحت قدمه، من خلال رمزية التمثال المريب! أزعم توفيقى فى نقل الموضوع من فضاء وشيوع (مشاعر الغضب لإهانة الكرامة المصرية) إلى حيز “المسؤولية الفنية التقصيرية للفنان التشكيلي” ومخالفة القانون الفرنسى والمواثيق الدولية، بتورط النحات بارتولدى – بتأمين وصمت فرنسى – فى تواطؤ حضارى لإنكار الإهانة المصرية، وإنتاج “الإذلال الصامت” تجاه شعوب الجنوب، خصوصًا مصر!
إن تحول المطالبة من توثيق الوجع والغضب المصرى، إلى محاولة إعادة كتابة الذاكرة الجمعية المصرية، يحول المطالبة إلى مشروع ليس لتبجيل الماضى، بل لكشف آليات السيطرة التى ما زالت تعمل، برمزية تمثال هو المفتاح البصرى لفهم النظام العالمى الذى يريد مصر فى وضع التحت، لا الأعلى! لذلك فهذه المحاولة أو المطالبة تعتبر فى حقيقتها تفكيكا لسردية الهيمنة الثقافية بوعى تاريخى وقانونى وأدبى. فمن خلال تتبّع رمزية هذا التمثال وتحليل الظروف التاريخية والشخصية والفنية لإنشائه وموضعه فى قلب السوربون، تنكشف أمامنا شبكة أعمق من المعاني! كيف يُستغل الاكتشاف العلمى لتبرير الاستعلاء، وكيف يتحوّل الرمز البصرى إلى أداة قهر صامت طويل المدى؟ من هنا تكون المحاولة المصرية فى إقصاء التمثال عن موقعه الحالى، محاولة وعيٍ تاريخى وجمالى وقانونى لإعادة الاعتبار لرأس رمز مصر القديم، ليس كرمز للماضى فقط، بل كتمثيل لكرامة مصر فى الحاضر والمستقبل. التمثال هو العتبة، ولكنه ليس القضية وحده! فالقضية هى مَن يحق له أن يروينا؟ ومن يكتب تاريخنا؟ ومن يدوس رموزنا باسم العلم؟
إن هذا التمثال لا يندرج ضمن حرية التعبير الفنى فقط، بل يعبّر عن سردية قهر بصرى موروثة من عصر التفوق الإمبريالى، تُرسّخ فى الوعى الغربى صورة دونية للحضارات غير الأوروبية، ولا يكون فى طلب إيداعه بمتحف ناحته بارتولدى بكولمار ما يهدف إلى طمس التاريخ أو محو الذاكرة الفرنسية، بل إلى تصحيح منظورها وإعادة التوازن إليه بما يليق بكرامة الشعوب واحترام تعددية السرديات الثقافية. فالتمثال يُظهر بوضوح الباحث الفرنسى شامبليون يضع قدمه فوق رأس رمز حضارة الجنوب المصرى، فى مشهد لا يمكن فصله عن البنية التاريخية للاستعمار، حيث تُستخدم المعرفة لا لتحرير الآخر، بل لتثبيته فى موضع التابع! وبهذا، لا يمثّل التمثال مجرّد مشهد من حقبة استشراقية فرنسية تنحصر فى العلاقات المصرية/الفرنسية، بل يتحول لرمز لهندسة الهيمنة الحضارية التى مارستها قوى الشمال الاستعمارى منذ القرن الثامن عشر لليوم، على شعوب الجنوب العربى، الأفريقى، اللاتينى، والآسيوى، وبالتالى فهو ليس فقط تمثيلاً لمكتشف لغوى يعلو على فرعون، بل اختزال بصرى لمعركة الحضارات تُحسم بحذاء سافر فوق جبهة الجنوب!
إن أخطر ما فى هذا المشهد، ليس فقط أن القدم البيضاء تسحق رمزًا مصريًا، بل أن هناك من أبناء الجنوب من يتواطأ مع هذا المشهد، ويبرّره أو يهاجم من يعترض عليه. كما فى شخصية “ستيفن” فى فيلم Django Unchained! فيقف البعض من أبناء الجنوب حارسًا للبوابة التى تُهينهم، إما بحجة الحداثة، أو التسامح الثقافى، أو التواطؤ النفعي! ليتركز خطره فى كونه لا يقهر الجسد فقط، بل يُعيد تشكيل وعى المهزوم ليُحب جلاده (متلازمة إستكهولم)! فما بدا تمثالًا أكاديميًا لتكريم فك رموز الكتابة الهيروغليفية، يتحوّل عند تأمله بعمق لنصّ عنصرى مُبطّن يُكرّس التفوق العرقى والثقافى الأوروبى على الجنوب العالمى، ويحوّل رأس الحضارة المصرية لدعامة صامتة لصعود السيد الأبيض! وهو نوع من استعمار الوعى المحتم تفكيكه مع التفكيك الرمزى للتمثال ذاته!
هذا النموذج يتكرر بصور مختلفة فى كل الجنوب العالمي! فى أمريكا اللاتينية عبر نصب الجنرالات الإسبان فوق رموز الأزتيك أو شعوب الإنكا/ الهند عبر تماثيل الحكام البريطانيين فى الفضاء العام، أو أسماء الشوارع التى تمجد المحتل/ الكونغو حين وُضعت تماثيل ليوبولد الثانى قاتل الملايين فى قلب المدن/ فى العالم العربى عبر سياسات معرفية وإعلامية تظهرنا كخاضعين أو محتاجين لمن يشرح لنا تاريخنا. هذا الرأس المدعوس هو مجاز لكل جنوب جُرِّد من رموزه ووعيه وحقه فى سرد ذاته! ومقابل ذلك نجد أن الصين تفردت خلال العقدين الأخيرين بمعالجة صارمة للخروج من (الدعس) الغربى، من خلال تنفيذ مشروع ناهض حقيقى فى التصنيع، التقنية، التسليح، التجارة، لتفرض وجود التنين على النظام العالمى الجديد وصنع سرديتها الجديدة الخاصة، بدون انتظار اعتراف من الشمال المتسيد.
إن البداية الحقيقية لمصر ودول الجنوب هى تصميم سرديتهم الخاصة فى الوعى بتوجهات النظام العالمى الجديد وحرصه على استمرار شامبليونية الشمال على الجنوب! ولا شك أن السردية التاريخية للشمال توغلت فى جينات الجنوب، وربطته بخيوط ماريونيتية من الغذاء، التقنية، الطاقة، المصالح، نقل الأموال، استقرار البيوت الحاكمة، الاستثمارات الموجهة إلخ! ولا شك أيضا أن فك هذه السردية سيستغرق عقودا من المحاولات التى سيُخطط لوأدها، ابتلاعها، إجهاضها، مقاومتها بمزيد من الخيوط، والمزايا، والإرهاب، والتحليق! القضية لا تأخذ أى طابع ثأرى أو انتقامى أو عدواني! العكس صحيح، فالمحاولة هى تفكيكٌ يتوسم الوعى ببنية رمزية عالمية طالما مرّت دون مساءلة، وآن أوان استعادة اليقظة فيما نحن عليه وإلى أين نتجه؟ فهذه المحاولة لا تسعى إلى محو التاريخ، بل إلى تعديله نحو توازن رمزى أكثر عدلًا، لا يُعاقب فيه الطرف الذى سُرقت رموزه، ولا يُكافئ من وقف فوقها!
لذلك فإن الصمت، التعتيم، التربص، لعبة التوازنات، مراعاة المصالح، رخامية الدبلوماسية، الصبر الزمنى، كل ذلك من أدوات “ستيفن” الحكيم! التى سيطولها ديجانجو – أو أحفاده – يوما ما! إما بالتعلم من التنين الناهض أو بذاكرة الجمل الغاضب أو بزرع رموز وعى تنمو فى جينات جديدة! وفى كل الحالات ومهما طال الزمن وتعدد الـ”ستيفنات”، سيكون للجنوب غد جديد يعترف فيه شامبليون الشمالى بالحق الجنوبى!
* محامي وكاتب مصري
