رغم امتلاك مصر لمقومات نادرة فى مجال السياحة العلاجية، تجمع بين المهارات الطبية والأسعار التنافسية والمواقع الاستشفائية الطبيعية، لا تزال هذه الثروة بعيدة عن الاستغلال الأمثل.
وفى الوقت الذى تسابق فيه دول المنطقة منذ سنوات لجذب المرضى من أنحاء العالم، تبقى مصر فى موقع لا يتناسب مع إمكاناتها، وفى هذا التقرير، نستعرض أبرز المزايا التنافسية، التى تتمتع بها السوق المحلية، فضلًا عن تحديات التوسع والاستفادة من هذا المجال.
وتمتلك مصر مجموعة من المزايا التنافسية تجعلها قادرة على احتلال مكانة متقدمة إقليميًا ودوليًا فى هذا المجال، لعل من أبرزها، الكوادر الطبية عالية الكفاءة، حيث يصنف الأطباء المصريون ضمن الأفضل فى المنطقة، مع خبرات فى تخصصات نادرة مثل زراعة الأعضاء، جراحة العيون، والجلدية.
كما تعد التكاليف المنخفضة نسبيًا مقارنة بالدول الخليجية أو الأوروبية، أحد الأسباب التى تجعل مصر وجهة مفضلة للمرضى الباحثين عن الجودة والتكلفة المناسبة، علاوة على مواقع استشفائية طبيعية مثل سفاجا “علاج الصدفية”، سيوة “العلاج بالرمال والمياه الكبريتية”، وواحات البحر الأحمر، وهى مناطق لا تتوفر بنفس الخصائص فى دول الجوار.
فرص واعدة
قال الدكتور مايكل مدحت، مدير تطوير الأعمال والإدارة الدولية والسياحة العلاجية بمستشفيات “الوطنى للعيون”، إن قطاع السياحة العلاجية فى مصر يمتلك فرصًا واعدة للنمو، لكنه بحاجة ماسة إلى إصلاحات جذرية وهيكلية، فى مقدمتها إنشاء هيئة مستقلة تعنى بإدارة وتنسيق هذا الملف الحيوى بما يضمن تعظيم الاستفادة منه على المستويين الاقتصادى والصحي.
وأضاف مدحت، فى تصريحات لـ “المال”، أن القطاع شهد خلال السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا تزامنا مع التحسن المستمر فى منظومة الرعاية الصحية فى البلاد، الأمر الذى يجعل من مصر وجهة منافسة على خريطة السياحة العلاجية إقليميًا.
وتابع: “رغم الحراك الإيجابى من قبل الحكومة لدعم هذا المجال، إلا أن السياسات الحالية لا تزال بحاجة إلى وضوح وتنسيق أكبر مع الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارات الصحة، والداخلية، والطيران، والخارجية”.
وأشار إلى أن أبرز المعوقات التى يواجهها السائحون الوافدون للعلاج فى مصر تتمثل فى صعوبة الحصول على تأشيرات الدخول، خاصة بالنسبة للجنسيات الأفريقية، إضافة إلى ارتفاع أسعار تذاكر الطيران، وهو ما يدفع بعض المرضى – لا سيما اليمنيين – إلى انتظار العروض والتخفيضات المقدمة من بعض شركات الطيران مثل الخطوط السعودية، ليتمكنوا من السفر إلى القاهرة.
عمليات التجميل
وشدد مدحت على أن مصر تتمتع بمقومات طبية قوية، خصوصا فى مجال طب العيون، حيث تقدم المستشفيات المحلية خدمات ذات جودة عالمية بأسعار تقل عن نظيراتها فى الخارج بنسبة تصل إلى 80%، لا سيما فى تخصصات مثل جراحات تصحيح الإبصار والعظام.
وأوضح أن أسعار العمليات الطبية فى مصر تصل فى بعض الحالات إلى خمس التكلفة فى الدول المنافسة، وهو ما يعزز من تنافسيتها كوجهة علاجية، لكنه يتطلب استراتيجية تسويقية دولية محكمة.
وأشار إلى أن مصر أصبحت أيضًا نقطة جذب لعمليات التجميل، بدعم من وجود كوادر طبية مؤهلة ومدربة على أعلى المستويات، لكن ضعف التنسيق المؤسسى وغياب التسعير الموحد للخدمات العلاجية المقدمة للأجانب يحدّان من قدرة الدولة على تحقيق قفزة نوعية فى هذا القطاع.
وبين أن السياحة العلاجية فى مصر تواجه عددًا من التحديات الهيكلية، منها الاضطرابات الإقليمية التى تؤثر على حركة السياحة عمومًا، إضافة إلى نقص الكوادر التمريضية المؤهلة، خاصة الحاصلين على شهادات عليا، وهو ما يعكس أزمة أعمق تتعلق بتدنى الأجور ومخاوف الأطباء من مشروع قانون المسؤولية الطبية، الأمر الذى يدفع الكثيرين منهم إلى الهجرة للعمل فى الخارج.
وأضاف أن المستشفيات الحكومية والتعليمية لا تزال تعمل بنظم إدارية تقليدية خاضعة للرقابة الحكومية، مما يعيق قدرتها على التطوير والمنافسة على المستوى الدولي، موضحًا أن “غياب الإدارات التسويقية والإدارية المتخصصة فى هذه المؤسسات يفقدها فرصة الاستفادة من الطفرة التى يشهدها القطاع الصحى فى مصر”.
تسعيرة موحدة
طالب مدحت بضرورة وضع تسعيرة موحدة للخدمات العلاجية المقدمة للأجانب، كخطوة ضرورية لتحقيق الشفافية والعدالة وضمان بناء الثقة فى المنظومة الصحية المصرية، مؤكدًا أن تفاوت الأسعار من منشأة إلى أخرى قد يضر بسمعة الدولة على الصعيد الدولي.
كما شدد مدحت على أن تيسير إجراءات دخول المرضى الأجانب، وتوفير رحلات طيران بأسعار مناسبة، إلى جانب تبنى خطة استراتيجية شاملة تحت مظلة هيئة مستقلة، من شأنها أن تعزز من مكانة مصر كوجهة علاجية رائدة فى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصة فى ظل تنامى الطلب العالمى على خدمات الرعاية الصحية منخفضة التكلفة وعالية الجودة.
استغلال المقومات
من جانبه، توقع الدكتور على الإدريسي، أستاذ الاقتصاد الدولى وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، أن تحقق السياحة العلاجية فى مصر نموا سنوياً يتراوح بين 15 إلى %20 خلال السنوات الخمس المقبلة، خاصةً مع تزايد الأزمات الصحية إقليميًا، وبحث المرضى العرب والأفارقة عن بدائل موثوقة وبتكلفة مناسبة.
وطالب “الادريسي”، بسرعة استغلال كافة المقومات الحالية مثل الخبرة الطبية، المواقع العلاجية الطبيعية (كحلوان وسيوة وسفاجا وغيرها)، وطرح حوافز إنشاء تلك المراكز الطبية لخدمة المرضى العرب وبتكلفة تنافسية.
وأوضح أن السياحة العلاجية تمثل فرصة استراتيجية لتعظيم موارد الدولة من النقد الأجنبى ودعم القطاعين الطبى والسياحى معًا، لافتا الى أن مصر باتت مركزًا إقليميًا فى هذا المجال.
وتابع أن مصر أصبحت الوجهة الأولى لليمنيين للعلاج والإقامة المؤقتة، بفضل ما تتمتع به من نظام صحى متنوع، وكفاءة طبية عالية، وتكلفة علاجية منخفضة مقارنة بدول أخرى، ووجود أكثر من 800 ألف يمنى فى مصر، سواء للإقامة أو للسياحة العلاجية، يعكس مدى ثقة المواطن اليمنى فى المنظومة الصحية المصرية.
وذكر أن تصريح السفير اليمنى الذى أشار إلى وصول وفود يمنية يوميًا للعلاج فى القاهرة بمعدل من 3 إلى 4 طائرات يوميًا يؤكد أن هناك طلبًا مرتفعًا ومستمرًا، وهو ما يستدعى من الدولة والقطاع الخاص استراتيجية واضحة لاستيعاب تلك الوفود.
ولفت إلى أن وضع تسهيلات الإقامة والتنقل تسهم فى مضاعفة تلك المؤشرات، والتوسع أيضًا فى البنية التحتية الصحية إلى جانب إلى جانب تطوير خدمات متكاملة تلبى احتياجات المرضى العرب بشكل عام واليمنيين بشكل خاص.
وأكد على أن المؤشرات الدولية أظهرت أن حجم سوق السياحة العلاجية عالميًا أكثر من 100 مليار دولار سنويًا، ومن المتوقع أن يتجاوز 140 مليار دولار بحلول عام 2027.
وتوقع أن يصل سوق السياحة العلاجية فى مصر مابين 5 إلى 10 مليارات دولار سنويًا فى حال تم تطوير المنظومة ودعم الترويج الخارجى بالشكل الأمثل، خاصة فى ظل تنامى الطلب من الدول العربية والأفريقية.
السياحة العلاجية
وكان السفير اليمنى بالقاهرة الدكتور خالد البحاح، أكد فى تصريح خاص لـ”المال” على هامش ندوة أقامتها السفارة بعنوان “العلاقات الاقتصادية اليمنية – المصرية: الواقع وآفاق المستقبل”، أن مصر تعد أهم الوجهات الرئيسية للمواطن اليمنى لتلقى العلاج، مؤكدًا على أهمية تعزيز التعاون الاقتصادى والسياحى بين البلدين، لا سيما فى ظل التحولات التى يشهدها العالم العربي.
وأضاف البحاح، أن المواطن اليمنى يحصل على الخدمات الطبية بشكل بسيط بدون أى تحديات ومعوقات سواء من القطاع الحكومى أو الخاص، وكذا التعليم لايتطلب أى شروط، مشيرًا إلى أن “ما لا يقل عن 3 إلى 4 طائرات يوميًا” تقل اليمنيين إلى مصر، كثير منهم لأغراض علاجية، رغم الظروف الصعبة فى اليمن.
وتوقع السفير اليمني، أن يرتفع حجم الاستثمارات اليمينة فى القاهرة إلى مليار دولار خلال الفترة المقبلة، مؤكدًا أن مئات المرضى اليمنيين يتوافدون يوميًا إلى مصر لتلقى العلاج، فى ظل توفر بنية طبية قوية ومستشفيات متقدمة.
وكان الدكتور محمد الحاوري، وكيل وزارة التخطيط والتعاون الدولى فى اليمن، قدر خلال كلمته بالندوة التى حضرتها “المال”، إجمالى حجم الاستثمارات اليمنية فى مصر بـ1.4 مليار دولار من خلال 227 شركة يمنية تستثمر فى مختلف القطاعات الاقتصادية.
وتابع أن مصر تُعد الوجهة السياحية العلاجية الأولى لكثير من اليمنيين، إذ يزورها أكثر من 100 ألف سائح يمنى سنويًا، بمتوسط إنفاق يصل إلى 5 آلاف دولار.
الخريطة العالمية
يشار إلى أن مشروع السياحة العلاجية الذى يحمل العلامة التجارية “نرعاك فى مصر” يهدف إلى وضع السوق المحلية على خريطة السياحة العلاجية العالمية، ويستند إلى تحقيق أهداف استراتيجية تشمل ترسيخ مصر كوجهة عالمية رائدة فى تقديم خدمات صحية فائقة الجودة للمرضى من مختلف الجنسيات، مع تحقيق عوائد اقتصادية مستدامة عبر جذب العملات الأجنبية من خلال تقديم خدمات علاجية متكاملة.
كما يشمل تصميم حزم علاجية شاملة تناسب احتياجات المرضى الأجانب، والتعاون مع الدول الأخرى لتبادل الخبرات والمعارف الطبية، مما يسهم فى رفع كفاءة الأداء وتحسين جودة الخدمات، بالإضافة إلى ذلك، يتم توظيف التكنولوجيا الحديثة لتسهيل الإجراءات العلاجية وتعزيز المشاركة فى الفعاليات الدولية لتسليط الضوء على مكانة مصر عالميًا.
وكان مجلس الوزراء وافق مؤخرًا على مشروع إنشاء “المجلس الوطنى للسياحة الصحية”، برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء، بهدف تنظيم السياحة الصحية ورفع جودة خدماتها، سعيًا إلى زيادة أعداد السائحين القادمين إلى مصر بغرض تلقى الخدمات الصحية.
ويختص المجلس الوطنى بإصدار القرارات المُلزمة التى تُمكنه من تحقيق أهدافه المتعلقة بالسياحة الصحية، ويضع استراتيجية وطنية للسياحة الصحية، والإشراف على تنفيذها، ومتابعتها، وتحديثها بما يتماشى مع التطورات الدولية فى هذا المجال، مع وضع برامج وآليات التوعية بأهمية السياحة الصحية، والترويج لها، وتشجيع مشاركة القطاع الخاص فى هذا المجال، إلى جانب وضع معايير تقديم خدمات السياحة الصحية وفقاً للمعايير العالمية، فضلًا عن إعداد إحصائيات وطنية تحدد أعداد المستفيدين من خدمات السياحة الصحية فى مصر، بما يعكس مركز مصر فى المؤشرات العالمية فى هذا المجال، بالإضافة إلى وضع السياسات التسويقية للإعلان عن خدمات السياحة الصحية بمنهج وطنى موحد.
كما يختص المجلس الوطنى بإنشاء منصة الكترونية وطنية موحدة تشمل مختلف البيانات المتعلقة بالسياحة الصحية بمصر، والإشراف على خدماتها، مع العمل على ضمان تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين القطاعين الحكومى والخاص فى إتاحة تقديم خدمات السياحة الصحية، إلى جانب تسهيل حصول المستفيدين على مختلف خدمات السياحة الصحية، وتذليل مختلف العقبات التى تواجههم، ووضع آلية لتلقى وبحث وحل شكاوى المستفيدين بخدمات السياحة الصحية.
هذه السوق ستتجاوز 140 مليار دولار عالميًا بحلول 2027
الإدريسي: أداة قوية لجذب النقد الأجنبى وتحقيق التنمية المستدامة
مدحت: فرص واعدة للنمو لكن هناك حاجه ماسة إلى إصلاحات جذرية
البحاح: مصر الواجهة الأولى لليمنيين
