Ad

دعونا نلطم

تجبرنى مقتضيات عملى على فتح عدة ملفات فى آن واحد، وتدفعنى رغبة دفينة فى عدم حصر نفسى فى ملف واحد إلى الاتجاه نفسه، يدعمها فى هذا حزن دفين أسبابه خاصة وعامة.

نواجه لحظة عالمية يمكن تلخيصها فى كلمتين... عودة التوحش وتراجع الحضارة؛ أو على الأقل السلوك المتحضر. أرى تقدمًا هائلًا فى المعارف المتعلقة بالعلوم الطبيعية، وفى الاهتمام ببعض القضايا الرئيسة وبالقضايا الفرعية والثانوية فى العلوم الاجتماعية، على حساب قضايا مسكوت عنها بالغة الأهمية، وأرى تراجعًا حادًّا فى مستوى الوعى السياسى والدينى فى كل أنحاء المعمورة، يؤثر قطعًا على اختيار القيادات وعلى أدائها. وبعض هذه القيادات تتفاخر بوقاحتها وتوحشها وبقدرتها على التخريب والقتل والفساد. وهذه القيادات وغيرها غارقة فى نرجسية فردية أو جماعية تتسبب فى نوع فريد من العمى، ويبدو لى أحيانًا أن الجماهير والشباب يخصصون وقتًا كبيرًا وجهدًا محمودًا فى اكتساب المعارف العلمية والتقنية، التى تؤهلهم لوظائف راتبها معقول، أو لممارسة نشاطات مُجزية، وأن هذا يتم على حساب قراءة أمهات الكتب وعلى حساب الثقافة العامة والسياسية والفنية، حيث يكتفون بما هو سطحى وتافه.

أفهم طبعًا أن الوفرة الغزيرة للمعلومات، شأنها شأن الشح فيها، يُعقدان التحليل السياسى ويعرقلان القدرة على الرؤية، وفى هذا الصدد أُقر بأن التكنولوجيا تسمح بتسريع عمليات بث وتحليل المعلومات، لكنها تسهل أيضًا بث أكاذيب وأخبار غير صحيحة، كما أفهم أننا على أعتاب عالم جديد مع ثورة علمية لم يسبق لها مثيل فى تاريخ البشرية، وهى ثورة الذكاء الاصطناعي، التى تفتح آفاقًا مُذهلة وتُقدم وعودًا فاتنة وتحمل تهديدات مخيفة؛ منها القضاء على مئات الملايين من الوظائف. وأعرف أن سرعة تطور هذه التكنولوجيا تحدُّ من مدة صلاحية أى حديث جادّ عنها، ما كان حقيقيًّا فى يناير الماضى لم يعد حقيقيًّا اليوم.

وأتابع، بحكم العمل، تأثير التكنولوجيات الجديدة على الموازين العسكرية، وتسببها فى توسع بالغ فى طيف التهديدات وسقف المخاطر. بات فى مقدور مجموعة صغيرة من الأفراد تعطيل منظومات كبرى بالكامل، بتكلفة قليلة، وباللجوء إلى تكنولوجيا فى متناول الجميع.

ومع تعقُّد التكنولوجيا، كثر عدد المرافق والمنشآت الحيوية التى يجب حمايتها؛ لأن استهداف أيٍّ منها كفيل بتعطيل حركة الاقتصاد، أو التسبب فى أضرار جسيمة قاصمة، ومن ناحية أخرى نعيش، اليوم، فى عالم شبكات وارتباطات متبادلة يؤثر عليها أى تشويش، ولا تمنع هذه الشبكات والارتباطات العداوات، لكنها ترفع كلفتها وتُعقّد عملية إدارتها.

وللعولمة الرأسمالية مزايا لا تُنكَر، وعيوب لا يمكن تحجيمها. قرأت مقالًا فى التايمز اللندنية، تعرَّض لدور شركة آبل الأمريكية فى صنع المعجزة الصينية، وتمكين الصعود الصينى الذى بات يهدد الهيمنة الأمريكية، وهو دور غير مقصود لذاته، بل يعود إلى الرغبة فى تعظيم أرباح الشركة. لم تكتفِ الشركة بتوطين عدد كبير من مصانعها فى الصين، ولا بتفضيل بعض الشركات الصينية القادرة على تقديم عروض مُغرية، فيما يخص بعض المكونات كشاشة تليفونها المحمول “الآى فون”، بل درّبت أعدادًا كبيرة من المهندسين والمبرمجين الصينيين؛ لأن كلفتهم أقل من كلفة نظرائهم الغربيين، وأطلعتهم على أدقّ أسرار الشركة، وكانت كثيرة الاستغناء عنهم واستبدال غيرهم بهم، من الصينيين أيضًا، ربما تفاديًا لضرورة رفع رواتبهم، واشترطت فى الشركات الصينية التى تتعامل معها ألا تعتمد كليًّا على شركة آبل، وأخيرًا رضخت لشروط حكومة بكين. باختصار، مدّت الشركة الصين بقاعدة عريضة من الكفاءات فى مجالات التكنولوجيا الحديثة. يمكن القول إن آبل صنعت القاعدة العلمية الصينية، وإن الصين أثرت آبل لتصبح من أهم الشركات العالمية، وذكَّرنى هذا المقال بجملة لينين الشهيرة: ستمدُّنا البرجوازية بالحبل الذى سنستخدمه لشنقها.

القائمة تطول... مستقبل الكوكب على المحك... مناطق بالكامل ستكون غير صالحة للحياة إن استمر الاحتباس الحرارى دون تعامل جاد معه.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية