عن الكراهية وخطابها 1
قضية التصدى لخطاب الكراهية والتحريض من أولويات جدول أعمال الأمم المتحدة ومنظمات محلية ودولية أخرى. وازدادت أهميتها فى العقدين الماضيين مع ازدياد عدد الصراعات المسلّحة، وارتفاع حدة تهديد الإرهاب المحلى والعالمي، ومع تكاثر حالات التطهير العِرقي، والتهجير القسري، وجرائم كراهية أخرى؛ منها الإبادة الجماعية، ومع التنوع الكبير لوسائل وأساليب بث خطاب الكراهية والتحريض بسبب ما يتيحه الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى ومختلف المنصات الرسمية وغير الرسمية. وهناك إجماع دولى على دور مختلف أشكال خطاب الكراهية فى تأجيج الصراعات الداخلية والمحلية، وفى الحث على الإرهاب أو على ارتكاب جرائم فردية.
هذا الإجماع على التشخيص والإدانة لا يُخفى عمق وحِدة الخلافات والتناقضات فى تعريف ماهية الخطاب، وعلى تقدير درجة خطر كل خطاب على حدة، وما أسهل تبادل الاتهامات والشكاوى.
وتبذل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى جهدًا عظيمًا لدراسة هذه المشكلة والتفكير فى وسائل حلّها، وشرفتُ بالمشاركة فى بعض الجلسات، استمعتُ فيها واستمتعتُ وتعلمت. هذا الإقرار ليس مجاملة، لستُ من المتابعين للدبلوماسية الثقافية والفكرية والإعلامية الدولية.
لكن اهتمامى بخطاب الكراهية والتحريض قديم، وأسبابه متنوعة، الصراع العربى الإسرائيلى أحدها، لكنه ليس الوحيد. يضاف إليه اهتمامى بالدراسات عن الحروب الهجينة، وعن “لغة الأنظمة الشمولية” والجماعات المتطرفة، وعن العلاقة بين اللغة والأيديولوجيا، وعن نظريات المؤامرة، وعن الخلفيات التاريخية والفكرية للمجازر الجماعية وللمحرقة، عن التأثير المتبادل بين الخطاب والمُدركات، وعن مفهوم الحضارة، وعن تاريخ الخوف والشك والعدوانية والتعصب... إلخ.
لا أزعم أننى أستطيع أن أفى الموضوع حقه، لكن لا بأس من تناوله من زوايا مختلفة قد أخطئ فيها وقد أصيب. ونبدأ بسؤال: هل يمكن الاستخفاف بالمشكلة؟ أو فى المقابل الاستسلام أمامها؛ لأن حلها إما بالغ الصعوبة أو مستحيل، وردِّى أننى لا أتوقع إمكانية حلها أو معالجتها، لأسبابٍ سأعرضها، لكن العمل الجاد ضرورى إما لمنع مزيد من التدهور، أو لتحسين المشهد ولو طفيفًا.
قرأتُ هنا وهناك ملاحظات تتعلق بما أُسميه المشهد الثقافى الأنثروبولوجي. بدايةً دعُونا نُقر بأن الإنسان مخلوق عدواني، يحب ويكره ويخاف، وأن هذه السمات لن تختفي. ثم نقول إن الإنسان الحديث - فى منطقتنا وفى الغرب وغالبًا فى كل أنحاء المعمورة - يتوجس من الآخر ويخشاه ويشكُّ فيه ويرفضه، ويعود هذا إلى ذاكرة الحروب الأهلية، والحروب الدينية ومنها الصليبية، والحروب الأخرى. لا ننسى أن فكرة العقد الاجتماعى نشأت على يد العظيم توماس هوبز وكانت سلاحَه السياسى الفكرى للقضاء على الحروب الأهلية وعلى سطوة رجال الدين ولتأسيس مجتمع آمن يسمح بالتعايش. وفكرة العقد تقر بأن الثقة بين الموقِّعين ليست تلقائية، وأن كلًّا منهم يحتاج إلى حماية؛ كونها ضرورية كاشفة عن التدهور فى العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان.
واتسم العصر الحديث بتطورات أخرى، سياسيًّا باتت الكراهية الركيزة الصلبة الرئيسة لعدد من المشروعات السياسية، فى عدد كبير من الأحوال بات مضمون المشروع أقل أهمية من كونه تعبيرًا أو تنفيسًا عن كراهية فئات تجاه فئات أخرى، وباتت تغذية الكراهية وتنميتها وسيلة ضرورية لا غنى عنها لحشد المريدين والجماهير.
وتطورت الحرب، الجيوش صارت أكبر حجمًا، وباتت تعتمد على الخدمة العسكرية الإلزامية، ومن ثم على الشعوب، وتطورت الأسلحة لتصبح أشد فتكًا، وأدخلت مقتضيات تنظيم الجيوش وإعدادها وتمويلها عدة تعديلات على هيكل الدولة وبنية المجتمع وعلى العلاقات بينهما، تطورت منظومة الضرائب وعلوم الإحصاء والرعاية الصحية ومنظومات البحث العلمي... إلخ، وأصبحت الحرب عملية تتطلب حشد المجتمع بأكمله؛ الرجال على الجبهة، والنساء فى المصانع وغيرها، وتتطلب الحرب إحكام الدولة سيطرتها على المجتمع وعلى نشاطه، وحدثت طفرة فى علوم الاتصال وفنون الدعاية والحشد، ولعب خطاب الكراهية وشيطنة العدو وظيفة رئيسة، تُسهل الحشد وإقبال المجنّدين على قتل بشر وعلى تقبُّل تضحيات جسيمة وعلى تحمُّل ما لا يمكن تحمُّله.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية من خلال الحصول على رخصتى السندات وأمناء الحفظ
