خواطر فى المعرفة والجهل
أعترف بأننى اتخذت قرارًا، فى الأسبوع الماضي، بتخصيص أغلب وقتى فى قراءة أو إعادة قراءة كتب تاريخ من ناحية، وكتب عن أصول الإستراتيجية والقيادة من ناحية أخرى؛ رغبة منى فى عدم الوقوع بالفخ الذى نصَبَه الرئيس الأمريكى ترامب، الحريص، فيما يبدو، على أن تتصدر أخباره وأخبار قراراته النشرات الإخبارية فى كل أنحاء المعمورة يوميًّا، ونظرًا لفروق التوقيت، نستيقظ يوميًّا، نحن معشر الخبراء العاملين فى العالم العربى وفى أوروبا، ونبدأ اليوم بفتح التليفزيون وبمتابعة المنصات الإخبارية؛ لمعرفة آخِر أخبار القرارات والحماقات والمصائب، ولا يخيب ظننا أبدًا. وبات واضحًا أن تأثير هذا على المعنويات، وربما على الصحة، سلبى جدًّا.
لذا قررت أن أفرض على نفسى عدم متابعة النشرات الإخبارية ولا المنصات بين الظهر والعشاء، وإمضاء الوقت فى قراءة كتب ودراسات ومقالات طويلة، مع تفضيل الكتب، ويومى الأربعاء والخميس الماضيين غرقت فى كتاب عن الإستراتيجية، للأكاديمى الفرنسى الراحل هيرفيه كوتو بييجاري، ودفعتنى بعض الفقرات إلى إعادة النظر فى كتب أخرى. لكن الهروب من المسألة الترامبية ليس بالأمر اليسير...
يستشهد الكاتب بقائد غربى قال إن القائد العسكرى الكبير عليه أن يعرف الكثير ليتمكن من إنجاز القليل، وكان يقصد أنه يجب أن يكون متبحرًا فى علوم النفس والسياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام، كما يجيد فنون الإستراتيجية والحرب، وقائد آخر نصح نظراءه ومرءوسيه بالمواظبة على قراءة أمهات الكتب من التراث العالمي. وخصص كوتو بييجارى فقرات لاستعراض قراءات نابوليون وفريدريك الأكبر ولورانس العرب، وغيرهم.
قبل أن نختبر هذه المقولات، علينا أن نشير إلى أن الكاتب يقر بأن المعرفة لا تكفى لصنع قائد فذ، هناك تمييز معروف بين “رجل المعرفة” المتبحر فى العلوم، و”رجل القوة” القادر على الحشد والتحريك. قد تجتمع صفات النوعين فى رجل واحد لكن هذا ليس الأصل. ونشير إلى أمر آخر... فى أغلب الأحوال، الخصلة الرئيسة فى القائد هى القدرة على استيعاب سريع لسمات وخصوصية وضع أو موقف، وعلى اتخاذ القرار السريع. بالبلدي، يجب أن “يفهمها وهى طائرة”، لكن تنمية هذه القدرة تحتاج، فى أغلب الأحوال، إلى قراءات وخبرة ومرونة فكرية.
ابتسمت... “معرفة الكثير للتمكن من إنجاز القليل”؟ من الواضح أن الرئيس ترامب يرى العكس، يريد إنجاز الكثير، فى كل المجالات، وجهله مُطبق، يتصور أن مكره ذكاء، ويرى أن المعرفة توجِد هوة بين أصحابها وبين العامة، أصحاب المعرفة عنده قوم يريدون منه أن يغيّر قناعاته، ولا يفهمون تمنيات وتصورات قطاعات الرأى العام التى انتخبته، وهم بارعون فى عرقلة تنفيذ قراراته ويزعمون أنها غير واقعية. أُقر شخصيًّا بأن أصحاب المعرفة لهم توجهات أيديولوجية وأنهم يميلون إلى إخفائها تحت ستار “العلم يقول”، وأُقر أيضًا بأن الرئيس ترامب وصل إلى البيت الأبيض ليرث عدة أزمات لم توفَّق إدارة الرئيس بايدن فى إنهائها أو فى إدارتها، لكن هذا لا يبرر ولا يعذر منهج الإدارة الجديدة وأهدافها وأساليبها وإستراتيجيتها وخطابها ووقاحتها وتخبُّطها.
توقفتُ لوهلة... رئيس أمريكى آخر كان جاهلًا، وشأنه شأن الرئيس ترامب، كانت لديه قناعات قليلة لكنها راسخة، ولا يمكن لأحدٍ دفعه إلى الشك فيها أو تغييرها، لكن المؤرخين يرون فيه واحدًا من أفضل رؤساء الولايات المتحدة، أتحدث طبعًا عن رونالد ريجان. ويمكن القول إن الرئيس جيرالد فورد كان عديم الخبرة فى السياسة الخارجية، واتخذ قرارات رغم اعتراضات مستشاريه، ثم اتضح لاحقًا أنه كان على حق، وفى بلدنا اتخذ الرئيس السادات قرارات تخالف رأى من سمّاهم “مجلس الحكماء”، وكان على صواب فى عدد كبير منها.
الفارق بين ريجان وترامب واضح، قناعات ريجان قليلة لكن أغلبها صائب، وإلى جانب هذا كان يجيد إدارة فريق كفء، وإلى جانبه نائب رئيس من العتاولة... فورد كان إنسانًا سويًّا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
