قلة «الوعي» أبرز تحدٍ يواجه تغطيات المشروعات الناشئة

Ad

فى وقت تتسابق فيه دول العالم نحو تعزيز بيئة الأعمال وتقوية مناعة المشروعات الناشئة، يبقى التأمين فى السوق المصرية عنصرًا مهمشًا على طاولة أصحاب الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر. فعلى الرغم من توافر منتجات تأمينية موجهة لهذا القطاع، فإن نسب التغطية ما تزال محدودة، وتعتمد على نماذج تقليدية لا تتماشى مع طبيعة المخاطر المعاصرة، خاصة تلك المرتبطة بالتشغيل والأنشطة الرقمية.

وفى هذا السياق أوضح الدكتور علاء العسكري، أستاذ التأمين والعلوم الاكتوارية بجامعة الأزهر، أن التأمين على المشروعات الناشئة والصغيرة ومتناهية الصغر موجود بالفعل فى السوق المصرية، إلا أن نطاق تغطية الأخطار لا يزال قاصرًا على “الأخطار البحتة”، وهى تلك التى ينحصر تحققها فى الخسارة فقط، كالحريق والسرقة وخيانة الأمانة. مؤكدًا أن هذا التوجه لا يواكب المتغيرات العالمية، التى أصبحت تولى اهتمامًا متزايدًا لما يعرف بـ”الأخطار المؤسسية” أو “أخطار التشغيل”، والتى تمثل تهديدًا حقيقيًا لمسيرة الشركات واستمراريتها، لا سيما فى مراحلها الأولى.

وأضاف أن على شركات التأمين تطوير أدائها، سواء من حيث التوعية أو من خلال الاستفادة من التحول الرقمى وتطبيقات الذكاء الاصطناعى التى باتت جزءًا لا يتجزأ من صناعة التأمين عالميًا. مؤكدًا أن مفهوم إدارة المخاطر ينبغى أن يتجاوز حدود الوثائق، ليشمل تقديم الاستشارات المهنية من قبل شركات التأمين، خاصة للشركات الناشئة والصغيرة التى تفتقر غالبًا للخبرات المتخصصة فى هذا المجال.

وأشار إلى أن إدراج تكلفة التأمين ضمن المصروفات التشغيلية للمشروع لا يعد عبئًا كما يتصوره البعض، بل يمثل حماية فعلية من الانهيار أو التعطل فى حال تحقق أى خطر. واستشهد بأحد البحوث التى أُجريت فى خمسينيات القرن الماضى بالولايات المتحدة تحت عنوان “إدارة المخاطر: رؤية جديدة لتقليل التكلفة”، والذى خلص إلى أن وجود قسط تأمين يساهم فعليًا فى تخفيض التكلفة عند وقوع الخطر، لأنه يتكفل بتغطية الخسائر الناتجة.

وأكد العسكرى أن غياب التخطيط الاستباقى وافتقارنا إلى ثقافة التعامل مع المخاطر يؤدى إلى تكرار مشهد توقف العديد من الشركات عند أول أزمة. لافتًا إلى أن المخاطر جزء لا يتجزأ من بنية الأسواق والمشروعات، ولا يمكن فصلها عن عملية الربح، إذ ترتبط الربحية غالبًا بدرجة المخاطرة.

ودعا رواد الأعمال وأصحاب المشروعات إلى إدراك أن تكلفة إدارة المخاطر، وعلى رأسها التأمين، جزء أصيل من تكلفة المشروع ككل، وأن إغفالها يُعرّض الاستثمارات للخطر.

ورأى أن هناك حاجة ماسة إلى تدخلات تنظيمية تُلزم أصحاب المشروعات بالتأمين، كما هو الحال فى التأمين الإجبارى على المركبات، الذى أثبت فاعليته فى التخفيف من آثار الحوادث وتعويض المتضررين. وأكد أن ترك الأمر لاختيارات الأفراد غالبًا ما يؤدى إلى الإحجام عن التأمين، ما يُضعف قدرة السوق على امتصاص الصدمات.

ومن جانبه أكد أحمد إبراهيم، مدير وكالة أول بشركة الكويت للتأمين، أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تواجه تحديات متعددة تؤدى إلى إغفالها أهمية التأمين، وعلى رأسها الضغوط المالية ومحدودية الميزانية وضعف السيولة، لا سيما فى مراحل التأسيس والنمو الأولى. كما أن نقص الوعى التأمينى وعدم إدراك أصحاب الأعمال لحجم المخاطر التى قد تتعرض لها شركاتهم يشكلان عائقًا أساسيًا أمام اتخاذ قرارات التأمين.

وأضاف أن الانشغال اليومى بإدارة العمليات والسعى لتحقيق الأرباح السريعة يجعل أصحاب الشركات يؤجلون خطوات حماية منشآتهم، رغم أهمية ذلك لاستمرارية أعمالهم.

وأكد أن غياب التأمين يعرّض الشركات لمجموعة من المخاطر الكبيرة، أبرزها الكوارث الطبيعية والحرائق التى قد تتسبب فى توقف تام للأنشطة، بالإضافة إلى الهجمات السيبرانية التى ازدادت خطورتها مع التحول الرقمى واستخدام الأنظمة السحابية.

كما أشار إلى المخاطر القانونية الناتجة عن الدعاوى القضائية من العملاء أو الموظفين، ومخاطر انقطاع الأعمال جراء الأزمات الصحية مثل كوفيد-19.

وأوضح أن الإحصائيات العالمية تشير إلى أن %40 من الشركات الصغيرة التى تتعرض لكارثة كبرى لا تتمكن من العودة إلى العمل، فى حين أن %25 من الشركات التى تستمر فى العمل بعد الكارثة تغلق أبوابها خلال عام واحد نتيجة الخسائر المتراكمة، ما يدل على أن غياب التأمين يمثل تهديدًا وجوديًا لهذه الشركات.

وأشار إلى أن هناك أنواعًا أساسية من التأمين لا بد أن تضعها الشركات الصغيرة والمتوسطة فى مقدمة أولوياتها، مثل تأمين الممتلكات، وتأمين المسؤولية المدنية، والتأمين ضد الهجمات السيبرانية، والتأمين الصحى للموظفين، وتأمين انقطاع الأعمال.

ولفت إلى أن البدء بهذه التغطيات الأساسية يمثل خطوة استراتيجية لحماية الاستثمار، على أن يتم التوسع فى التغطية مع نمو الأعمال.

ويعتقد أن التأمين لا يحمى الأصول فحسب، بل يسهم أيضًا فى تعزيز ثقة العملاء والشركاء، ويُسهّل حصول الشركات على التمويل من البنوك والمؤسسات المانحة.

وأكد أن الدراسات، ومنها دراسة صادرة عن هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة “منشآت” أثبتت أن الشركات التى تمتلك تغطية تأمينية شاملة تتمتع بمعدلات بقاء أعلى بنسبة %35 مقارنةً بنظيراتها غير المؤمَّنة، إضافة إلى تحقيقها نموًا أسرع وقدرة أكبر على جذب الاستثمارات.

وعن فرص التطوير، قال إن السوق بحاجة إلى تقديم منتجات مرنة بأقساط تتناسب مع قدرات الشركات الناشئة، مع الاستفادة من التقنيات الرقمية لتسهيل الإجراءات، وتطوير حزم تأمينية متكاملة تناسب كل قطاع على حدة.

كما دعا إلى تنفيذ حملات توعوية موسعة بالتعاون مع الجهات الرسمية مثل الغرف التجارية وهيئة “منشآت”.

واختتم إبراهيم تصريحاته موضحًا أن وجود تشريعات مُحفّزة وملزمة يمكن أن يغير المشهد، كأن تُمنح تسهيلات بنكية أو إعفاءات ضريبية مشروطة بالتأمين على المنشأة، مع ضرورة تكثيف جهود التوعية من قبل شركات التأمين، ليصبح التأمين ثقافة عامة ضمن بيئة الأعمال، ومكونًا رئيسيًا لتحقيق الأمان الاجتماعى للعاملين فى هذه القطاعات الحيوية.

وفى هذا السياق أكد الدكتور ياسر العالم، العضو المنتدب لشركة إيجيبت لينك لوساطة التأمين، أن أغلب المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر تغفل عن الحصول على تغطيات تأمينية فى مراحلها الأولى، مرجعًا ذلك إلى غياب السيولة الكافية وارتفاع التكلفة التشغيلية، ما يجعل التأمين خيارًا غير مطروح لدى كثير من رواد الأعمال عند انطلاق المشروع.

وأوضح “العالم” أن واقع التأمين فى هذا القطاع لا يزال ضعيفًا، نتيجة انعدام الوعى التأمينى وغياب الإلزام من الجهات الرقابية والهيئات المانحة للتراخيص، وهو ما أدى إلى غياب شبه تام للغطاء التأمينى المخصص لتلك المشروعات.

وشدد على ضرورة توفير مرونة سعرية وإجرائية تناسب طبيعة هذه المشروعات، إلى جانب تعزيز جهود التوعية من جانب الأطراف المعنية، وفى مقدمتها الاتحاد المصرى للتأمين وهيئة الرقابة المالية والجهات المانحة.

كما أشار إلى أن ارتفاع تكلفة التأمين يمثل عائقًا أساسيًا، لكنه ليس الوحيد، إذ تلعب ضعف الثقافة التأمينية وعدم الوعى بمتطلبات الحماية الوقائية للأمن والسلامة دورًا كبيرًا فى تراجع الإقبال على التغطية.

وبيّن “العالم” أن هناك عددًا من التغطيات التى يمكن أن تخدم هذا القطاع بشكل مباشر، منها تأمين الحريق والسطو والحوادث وخيانة الأمانة والسرقة بالإكراه، إضافة إلى أعطال الماكينات وفقد الإيراد، مشيرًا إلى أن هناك أيضًا تغطيات أكثر تخصصًا يتم تحديدها وفقًا لطبيعة النشاط.

وكشف أن هذه الأنواع من التأمين لا تزال متخصصة بشكل كبير، وغالبًا ما تتوافر فقط لدى الشركات الأجنبية العاملة فى مصر أو لدى شركات تمتلك طاقات استيعابية كبيرة واتفاقيات إعادة تأمين تتيح لها مواكبة تطورات بيئة الأعمال الرقمية.

وشدد على أن غياب الوعى التأمينى يشكل العائق الأكبر أمام وصول رواد الأعمال إلى هذه المنتجات، لافتًا إلى أن الحل لا يكمن فقط فى توفير المنتجات بل فى خلق قنوات للتثقيف والتوجيه.

ولفت إلى أن شركات التأمين مطالبة بلعب دور محورى فى إنماء الوعى التأميني، مشيرًا إلى إمكانية تأسيس منصة إعلامية متخصصة أو جريدة أسبوعية تركز على قضايا التأمين، بما يسهم فى بناء ثقافة تأمينية مستدامة لدى رواد الأعمال.

وأوضح أن حجم التعاون الحالى بين شركات التأمين وحاضنات الأعمال أو مسرعات الشركات الناشئة لا يزال ضعيفًا للغاية، داعيًا إلى بناء شراكات استراتيجية حقيقية يمكن أن تسهم فى دمج التأمين ضمن منظومة دعم المشروعات الجديدة.

وأعرب عن تفاؤله بإصدار اللائحة التنفيذية لقانون التأمين الجديد، مؤكدًا أن القانون المرتقب سيُحدث نقلة نوعية فى ضبط أداء السوق التأميني، وسيسهم فى تعزيز ثقة أصحاب المشروعات ورفع معدلات الطلب على التغطيات التأمينية.