منذ ديسمبر 2022 وبعد 43 مقالًا تفسيرًا، وتفنيدًا للموقف الفرنسى والضرر المصري، وتأصيلًا للمسؤولية الفنية التقصيرية للنحات أوجست بارتولدي، عن جُرمه فى نسخة تمثال شامبليون 1875 بالكوليج دى فرانس داعسًا بحذائه رأس ملكنا المصرى القديم، أتساءل هل يحتاج معنى هذا المسخ التاريخى لأن يكون قضية كرامة وطنية لمصر؟ هل تستوعب مصر والمصريون خطورة معنى هذا التمثال وما يمثله على الوعى الجمعى المصرى والصورة الذهنية لمصر فى فكر شعبها والمجتمع الدولي؟ هل ترقية ملف تمثال شامبليون من رف الإعلام الغاضب إلى منصة الاعتراض القانوني/ الفني/ الموضوعي/ التاريخي/ السياسي، ما يحوله من شعور عاطفى لقضية كرامة وطنية بمنهجية حقيقية؟
هل مصر والعالم فى 2025 مع ما يشهده من التغييرات الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية العالمية، وإعادة نحت التاريخ بسيوف غزاة التراب والفكر والأثير، ما يحتاجون معه أو ينقصهم شق مصر لعصا طاعة التبعية والاستعمار الثقافي، وتحويل غضب شعبى مشتت لملف دولى يستقطب حالات المثل المنحورة بأظافر النظام العالمى الجديد؟ الزيادة المقلقة يوميا تقريبا فى معدل التغيرات والانتهاكات الدولية للسياسة والجغرافيا والبشر والحقوق نحو “تفصيل” تاريخ جديد، تنبئ بأن القرن 21 هو قرن التغيير بالحديد والدم والنار لثوابت اعتبرناها قرونا حقائق وأسسنا عليها حيوات فى طريقها للموات، لتظهر عنقاء جديدة من بحيرات الدم والبارود!
يشهد العالم حاليا فورة يومية لإعادة ترتيب الوعى الجمعى العالمي، توثق تهيئته الميديا لطفرات فى التقنية، الذكاء الاصطناعي، بدء تحويل الفضاء لدومين أرضي، إعادة الاكتشافات التاريخية، التنازلات الدولية، الطاقة البديلة وانحسار زمن البترول، فتح الملفات القديمة لنبوءات الدجال، المهدى المنتظر، دخول الساميين للكعبة والمدينة، إعادة تخطيط الجغرافيا العالمية بنظرية سايكس بيكو، تفاسير حديثة لرواسخ الأديان، عوالم ما وراء الحاجز الجليدي، جهر الجمعيات السرية بمشروعات حكم العالم، تفعيل الاستنساخ البشري، تكاثر الروبوت وبدء عصر الروبوت البشرى او البشر الآليين، عادية التحول الجنسي، تطوير تنفيذ مشروع برنارد لويس لتقسيم الشرق الأوسط الكبير، إعادة تصميم أمريكا لفعاليات الشرطى العالمي، تطور مفاهيم التصفيات العرقية والتجاوزات الجغرافية، انحسار وتقوقع وتهميش المفكرين العالميين، الأفروسنتريك والتشكيك فى الأصول التاريخية، الأشكال الجديدة للاقتصاد الرقمى وتقلص المفاهيم التقليدية للأصول والقيم المالية، وغيرها من تغيرات سريعة جدا بدأنا فى تقبلها تدريجيا، لتتحول لواقع لا نشعر بخطورة زلزلته لأفكارنا ومبادئنا وأنماط حياتنا! لتصبح الدماء والجثث والمليارات والاعتداءات ونبرات البلطجة السياسية مجرد أخبار نتصفحها فى وسائل التواصل الاجتماعى والفضائيات، لنعود مهمومين بتدبر سدادنا للقروض والتضخم وغلاء الأسعار، ورويدا رويدا يفقد الوعى الجمعى المحلى والإقليمى والعالمى إحساسه بمرور زمن التغيرات التى تنقلب لواقع جديد!
فهل مع كل ذلك يجد ملف قضية شامبليون مساحة فى دقائق أيامنا لنرفع يد الاعتراض أو التوعية أو المطالبة بحق قديم قد تلتف حوله قلوب المصريين، وكل من داس على هامتهم النظام العالمى الجديد؟ هل ستكشف قضية كرامة مصر ضد حذاء شامبليون رؤوس أخرى تدعسها الحضارة الغربية، والمطامع الروسية، والخبث الصيني، والتوغل الهندي، والانبطاح الأفريقي؟ لماذا تتعمد فرنسا تورية تمثال شامبليون داخل الكوليج دى فرانس والتمسك به، ومع ذلك لا تظهره فى سابقة أعمال بارتولدي؟ هل ستكون فى قضية كرامة مصر أول رمزية لصرخة احتجاج دولى ضد النظام العالمى الجديد، بمرجعية تاريخية لصراع ثقافى فنى يكشف العديد من الأوجه القاسية للاستعمار والعنصرية الثقافية لاجتياح شعوب العالم، نحو وعى جمعى عالمى جديد؟
على مدار 43 مقالًا من ديسمبر 2022، اكتشفنا زخم من خفايا تمثال شامبليون وأضراره على مصر والمصريين، بصورة لم تبلور احترافيا حتى الآن، ولكنها فعلا حقيقة بأن يتحول الغضب لحق، والحق لمطالبة، والمطالبة لفعل، والفعل لإستراتيجية تقود بها مصر الدفاع عن كرامة كل المدعوسين عالميا بمفتاح عراقتها وإعادة تعريف العالم بتاريخها واعتزازها بقيمها. قيادة ينصفها فيها التاريخ، والفن، والثقافة، والقانون المصرى والفرنسى والدولي، وزخم من المثقفين والمفكرين المنصفين عالميا، وحان وقت الصيحة الشهيرة (محكمة)! فتكون قضية وعى مصرى ودولى بإعادة قيمة الكرامة الوطنية لمنصة الاحترام الدولي، وليست تدخلا فى الشأن الفرنسي، أو النيل من تاريخها الفني، أو رد الإهانة باعتداء ثقافى بلا سند! إنها ببساطة... دعوة لاحترام متبادل بين الشعوب، ونقلة نوعية فى صياغة علاقات ما بعد الاستعمار بثقافة الاعتراف لا الإنكار، ليكون نقل فرنسا تمثال شامبليون إلى متحف صانعه فى كولمار، أوقع وأرقى تجاوب حضارى فرنسى لاحترام حقوق الإنسان والكرامة المصرية.
قضية كرامة مصر ضد تمثال شامبليون ليست بوقا إعلاميا لمرحلة حرجة، أو موجة دعائية يحتاجها ارتباك محلي، أو إستراتيجية إلهاء عن واقع قاسٍ، او استنفارا شعوريا شعبيا يقنن ويطفئ بقرار! ولكنها رؤية جديدة لإعادة صياغة الصورة الذهنية لدور مصر الجديدة عالميا بداية من 2025، فى عالم تقولب فى القسوة والتجاوز والبلطجة الدولية والتبريرات الدموية والفتوحات الإعلامية وتحالفات الكبار على مصائر الشعوب! فهل سيُقدر يوما – قريبا – أن يتحول شامبليون إلى قضية كرامة مصرية برؤية عالمية؟ قد يُطلق القلم قذائف الحق، ولكن دوما زنادها يؤمن بشجاعتنا الوطنية الواعية يذخره إيمانها بالحق والصفة والمصلحة! ومن هنا فقط يمكننا توقع بناء عالم جديد مع قضية عادلة. فمصر تهتم!
* محامى وكاتب مصرى
