Ad

تأملات فى السياسة الخارجية للرئيس ترامب 4


لا أحد يعرف بالضبط أهداف السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة ولا المنطق الحاكم لها، إنْ درسنا التصريحات نخرج بانطباع، وإنْ تأملنا الأفعال خرجنا بانطباع مختلف، وليس بالضرورة متناقضًا، ومما يُعقّد القراءة التقلبات اليومية.

هل محرِّك هذه السياسة ضرب من ضروب الواقعية؟ أم هى سياسة محكومة باعتبارات أيديولوجية؟ أم هى سياسة تعكس نوعًا خاصًّا جدًّا من الانتهازية... انتهازية مقاول يرى فى البلطجة أعلى مراحل الذكورية... أم هى عبادة أسلوب يعتمد على الصدمات المستمرة ويتوسم خيرًا من الارتباك الذى تتسبب فيه؟ أم يجب تفسيرها بدراسة العلاقات بين هذا المقاول والدولة الروسية ورجال أعمالها؟

صديق يقلل من حِدة الانعطاف ويقول إن الرئيس ترامب يخاطب قاعدته الانتخابية، وأنه سيعود إلى مواقف أكثر تقليدية فى الأشهر المقبلة، أشكُّ فى هذا ولكننى لا أعرف جيدًا الولايات المتحدة، وأيًّا كان الأمر أوجدت السياسات والتصريحات الحالية وضعًا سيترك آثارًا أغلبها سلبى للعالم وللولايات المتحدة ولنا.

من يرى أن هذه السياسة واقعية يقول ما يلى. التهديد الأكبر آتٍ من الصين، ومسرح الصدام سيكون غالبًا فى المحيطيْن الهادى والهندى، ونظرًا للصعود الصينى وتكثيف بكين إنفاقها العسكرى واستعداداتها فقدت الولايات المتحدة القدرة على مواجهة دولتين كبريين فى آن واحد. وعليها أن تُضحى بمسرح؛ إما بكسب تأييد روسيا، أو بترك مهمة التعامل معها لأوروبا. هذه المقاربة تبدو وجيهة، ولكنها تصطدم بأسئلة... هل ما يقدمه الرئيس ترامب لروسيا يكفى لإقناعها بالابتعاد عن الصين؟ هل روسيا أهم من أوروبا؟ هل يمكن للرئيس بوتين أن يتخلى عن شريك صعب المراس ولكن سياسته واضحة ومستقرة لإرضاء دولة متقلبة الأهواء؟ ماذا يحدث إن عاد الديمقراطيون إلى سُدة الحكم فى واشنطن؟

قد تكون حسابات الإدارة الأمريكية أكثر تعقيدًا. مِن شأن رفع العقوبات عن موسكو تقوية مركز روسيا فى مفاوضاتها مع الصين، مما يعظّم فرصها فى النجاح فى رفع سعر صادراتها من الطاقة، وقد يُرهق هذا الاقتصاد الصينى. وتبقى الأسئلة... هل هذا المكسب - على فرض تحقيقه - يستحق التضحية بسُمعة الولايات المتحدة والسماح بتدهور كبير فى العلاقات مع أوروبا قد يصل إلى حد فض التحالف؟ هل يراهن الرئيس ترامب على صعوبة فك الارتباط العسكرى بين أمريكا وأوروبا، فعلى أوروبا إعادة التسلح بأقصى سرعة، وقد لا تستطيع صناعاتها الحربية تطوير أدائها بالمعدلات الضرورية.

التفسير بالواقعية له وجاهته، لكنه لا يفسر كم وحجم التنازلات المجانية المقدمة إلى موسكو، ولا يفسر سلوك الإدارة الجديدة تجاه كندا أو الدانمارك وهما شريكان مهمان، إلى جانب السخافات تجاه المكسيك، ويبدو أن الرئيس يستبعد تمامًا سيناريو يقترب فيه الاتحاد الأوروبى وكندا من الصين، كما لا ينتبه إلى قدرات أوروبا على الإضرار بالمصالح الأمريكية إن عقدت العزم على هذا، ولا إلى تداعيات سياساته على ملف انتشار الأسلحة النووية، ولا سيما فى آسيا وفى أوروبا الشرقية، وعلى موقف الدول الآسيوية المناهضة للصين منه.

تفسير آخر يرى أن الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة هى التى تحكم هذه السياسة، تحديد مقولات هذه الأيديولوجية صعب، والسهل هو عرض قائمة ما يكرهه أبناؤها. يكرهون النخب الليبرالية المائلة إلى اليسار ومنابرها الإعلامية، ويتصورون أنها متحكمة فى دولة عميقة سرية تدافع عن مصالحها هى، نخب تُوبخهم دون أن تفهمهم، نخب تفرض أجندة ثقافية تثير اشمئزازهم، نخب لم تهتم قط بحماية البسطاء البيض ووظائفهم، ومالت إلى تمكين الأقليات، الإدارة الجديدة تكره المهاجرين، وعدد من القوانين والمناهج التعليمية التى لا تتفق وفقًا لهم وتعاليم الدين. وتريد سلطة تنفيذية قوية يرأسها رجل قوى يعبر عن إرادة "أبناء البلد"، تريد سياسة خارجية تجمع بين الانعزالية فى ملفات، والعدوانية فى ملفات أخرى، وتتخلص من الالتزامات تجاه دول طفيلية تستغل "الطيبة الأمريكية".

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية