فى الولاية الثانية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، حطمت مؤشرات عدم اليقين الاقتصادى الأرقام القياسية التى سجلتها أيضا فى ولاية ترامب الأولى!
استخدمت صحيفة الفاينشيال تايمز البريطانية هذا التعبير للإشارة إلى المدى غير المسبوق لانعدام اليقين الاقتصادى العالمى فى ظل الكم الهائل من التهديدات التى وجهها الرئيس الأمريكى إلى الأعداء والحلفاء فى كل أطراف العالم.
بحسب الصحيفة، لم يعد من الحكمة افتراض استقرار سلاسل الإمداد، أو آليات التجارة العالمية، فى حين رجح بنك “يو بى إس السويسري” أن تطال الفوضى سعر الدولار، واتجاهات الفائدة الأمريكية فى ضوء إعادة تقييم دورة خفض أسعار الفائدة من قِبَل بنك الاحتياطى الفيدرالى، وهى جميعا عوامل ستؤثر حتما على الاقتصادات الناشئة.
وتقول “فاينانشيال تايمز” إنه على الشركات متعددة الجنسيات أن تتعلم منذ الآن كيفية العيش فى عالم غارق فى عدم اليقين.
فى الأثناء، يواصل المستثمرون تقليص تعرضهم لصناديق الأسهم فى الأسواق الناشئة، خاصة دول البريكس (البرازيل والهند وروسيا والصين)، والدول التى تئن تحت نسبة كبيرة من الديون المقومة بالدولار، وهو ما يحد من قدرة الأسواق الناشئة على تخفيف السياسة النقدية وتوفير تدابير التحفيز.
مفاوضات تجارية قاسية تنتظر الجميع
التفوق الأمريكى حاضر فى الأسواق، إذ تفوقت الأسهم الأمريكية على أسهم الأسواق الأخرى بنسبة %20 فى 2024، ومع ذلك، يظل مؤشر واحد ضعيفا بشكل استثنائى، وهو الميزان التجارى الأمريكى، بحسب تقرير نشرته صحيفة “ فاينانشيال تايمز” البريطانية.
وذكرت الصحيفة أن ضعف الميزان التجارى الأمريكى من المتوقع أن يحفز التعريفات الجمركية الجديدة التى تستهدف الصين.
وأوضحت الصحيفة أن أسعار صادرات الصين انخفضت بنسبة %18 عن ذروتها بعد الجائحة مقارنة بانخفاض قدره %5 على مستوى العالم، وفقا لتحليل بيانات مرصد التجارة العالمية التابع لمركز البحوث الاقتصادية.
ومن شأن انخفاض قيمة اليوان مساعدة الصادرات على الهيمنة بدرجة غير مسبوقة منذ الأيام الأولى للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فقد ارتفعت أحجام الصادرات الصينية بنسبة %38 على مدار السنوات الخمس الماضية مقارنة بارتفاع بنسبة %3 على مستوى العالم.
وبحسب الصحيفة، فإنه يتم توجيه التوسع فى الصادرات إلى أسواق ناشئة أخرى.
ووفقا للصحيفة، فإن ذلك يتجاوز مجرد إعادة توجيه المنتجات الصينية الموجهة إلى الولايات المتحدة، وهذا الأمر لا يفسر هيمنة الصادرات الصينية على بقية أسواق العالم الناشئة، بل إنه يعكس مسيرة مستمرة نحو الصعود فى سلسلة القيمة التصنيعية وتصدير الطاقة الفائضة.
وبحسب الصحيفة، فإن من شأن التعريفات الجمركية الأمريكية أن تعمق هذا الاتجاه، مع تداعيات على الإنتاج والإنفاق الرأسمالى فى مختلف الأسواق الناشئة، وقد تكون التعريفات الجمركية تضخمية بالنسبة للولايات المتحدة، لكن العكس سيكون صحيحا بالنسبة للاقتصادات الناشئة.
وأشارت الصحيفة إلى أن التعريفات الجمركية قد تؤدى إلى تسريع تباطؤ الواردات الصينية الذى كان قادما بالفعل، فقد انفصلت واردات السلع الأساسية حتى الآن عن تباطؤ الصين وسط البنية الأساسية القوية والاستثمار فى التصنيع، ومن شأن التعريفات الجمركية الجديدة أن تؤدى إلى تفاقم الضغوط المالية وإضعاف الربحية، مما يشكل تحديا لهذه الصلابة.
وأوضحت الصحيفة أنه مع تباطؤ النمو الآن فى مناطق كبيرة من الاقتصادات النامية، أصبحت الأسواق فى وضع ضعيف للتعامل مع حرب تجارية محتملة.
وبحسب الصحيفة، فإن التعريفات الجمركية قد تدفع نمو الناتج المحلى الإجمالى إلى %3 العام المقبل خارج الصين، إذ إن الاستثمار فى الأسواق الناشئة ثابت عند مستويات 2008 كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، كما توقفت الصادرات وفشل الاستثمار الأجنبى المباشر فى التسارع على رغم الآمال فى “التعاون مع الأصدقاء”.
وأشارت الصحيفة إلى أن الصناعات الحساسة للتعريفات الجمركية مثل السيارات والصلب والمعدات الكهربائية تشكل حصة أعلى من أسهم الأسواق الناشئة، خاصة خارج الصين، مقارنة مع الاقتصادات المتقدمة، وأوضحت الصحيفة أن هذا الضعف يؤثر على تقييمات الأسهم الصينية، التى لم تتعاف من حرب تجارية ثانية.
وذكرت الصحيفة أن الأسواق الناشئة خارج الصين تواجه أيضا مفاوضات تجارية أكثر تحديا مع ترامب من أى وقت مضى، فقد تحول هيكل العجز التجارى الأمريكى بشكل كبير إذ أصبحت الصين تمثل الآن %27 فى حين تشكل بقية الأسواق الناشئة فى العالم %55، وارتفع العجز مع المكسيك وفيتنام وتايوان وكوريا وتايلاند بسرعة خاصة، مما أدى إلى مزيد من عدم اليقين.
ويتوقع محللون نمو الأرباح بنسبة %14 فى الأسواق الناشئة خلال الفترة 2025 - 2026 مقارنة بنحو %4 خلال النزاع التجارى فى الفترة 2018 - 2019.
شكوك حول مسارات النمو المدفوعة بالصادرات
خلال 2024، تبنى عدد كبير من الاقتصادات الناشئة الهشة ماليا إصلاحات تهدف إلى القضاء على مواطن الضعف، فالأرجنتين وإكوادور ومصر وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا وباكستان وسريلانكا وتركيا وغيرها تبذل جهودا لوضع حد لتشوهات أسواق النقد الأجنبى، وكبح نمو الدين العام، وزيادة احتياطيات النقد الأجنبى، وتهيئة الظروف للنمو المستدام، بحسب تقرير نشره صندوق النقد الدولى.
وذكر التقرير أن هناك العديد من الاقتصادات الناشئة متوسطة الدخل التى تتمتع بهياكل اقتصادية أفضل وعلاقات أكثر استقرارا مع أسواق المال الدولية تنتهج سياسات أكثر تيسيرا من شأنها التهديد بتآكل الميزانيات العمومية للقطاع العام ورفع علاوات المخاطر، مثلما هو الحال فى البرازيل والمجر وإندونيسيا والمكسيك وبولندا وتايلاند.
وأوضح التقرير أن أسعار السندات فى الأسواق الناشئة قد استجابت لهذه الاتجاهات، فقد تقلصت فروق أسعار الائتمان فى البلدان الهشة أكثر من غيرها، وإن كانت آخذة فى التحسن، فخلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، حقق الدين السيادى المقوّم بالدولار دون المرتبة الاستثمارية فى الاقتصادات الناشئة عائدا يتجاوز %15، وعلى النقيض من ذلك، حقق الاستثمار فى البلدان التى تحتل مرتبة أعلى من حيث الجدارة الائتمانية عائدا أقل من %5 خلال ذات الفترة.
وأشار التقرير إلى أنه عندما تعود شهية المخاطرة إلى سوق ما بعد تعرضها لأزمة، فإن المستثمرين يوجهون محافظهم نحو البلدان الأخطر والتى سوف تستفيد أكثر من غيرها من زيادة الثقة.
لكن الأمر مختلف بعض الشيء هذه المرة، إذ لم تحدث أزمة مالية كبرى، سواء بالنسبة للأسواق الناشئة أو للعالم. والواقع أن رصيد الديون السيادية المتعثرة لم يتجاوز %0.5 من إجمالى الناتج المحلى العالمى فى العام الماضى. ورغم أن هذه النسبة أعلى مما كانت عليه قبل بضع سنوات، فإن انتشار التخلف عن السداد أقل كثيرا مما كان عليه فى أواخر ثمانينات القرن العشرين، عندما كان رصيد الديون المتعثرة أكثر من %2 من إجمالى الناتج المحلى العالمى.
ويتمثل أحد التفسيرات فى أن المخاطر التى تفرضها تدفقات رأسمالية ضخمة، وإن كانت متقلبة، أصبحت اليوم تُدار بشكل أفضل بكثير مقارنة بسبعينات وثمانينات القرن العشرين. والسبب أن كثيرا من الاقتصادات النامية تعلمت درسين مهمين ، أولها إبقاء عجز الحساب الجارى ضمن حدود معينة وزيادة احتياطيات النقد الأجنبى.
وبحسب التقرير ، فإن بعض عمليات الإصلاح المالى التى تقوم بها البلدان الهشة من المنظور التاريخى تتسم بأنها طموحة للغاية. ففى الأرجنتين، على سبيل المثال، تهدف السلطات إلى تحويل عجز الموازنة الأولى البالغ نسبته %3 من إجمالى الناتج المحلى فى عام 2023 إلى فائض بنسبة 1% فى العام المقبل. وتستهدف مصر تحقيق فائض أولى بنسبة %5 فى السنة المالية المنتهية فى يونيو 2027. وتخطط تركيا لتحويل العجز الأولى البالغ نسبته %2.6 من إجمالى الناتج المحلى فى عام 2023 إلى فائض بنسبة %0.5 من إجمالى الناتج المحلى فى العام المقبل.
وفى المقابل، هناك تصميم على زيادة النفقات من جانب الدول التى لديها ميزانيات أقوى وعدد أقل من تجارب عدم الاستقرار المالى. فقد ورثت رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم عجزا فى الموازنة لعام 2024 يبلغ نحو %6 من إجمالى الناتج المحلى، وهو الأكبر منذ عام 1989. وقد أعرب المتعاملون فى السوق عن مخاوف مبررة من أن الفترة الطويلة للتيسير المالى قد تكون فى بدايتها.
وتسعى البرازيل جاهدة إلى إقناع المستثمرين بأن ميل الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا نحو تيسير السياسة المالية يتوافق مع الاستقرار المالى. رغم أن وكالة موديز للتصنيف الائتمانى رفعت التصنيف الائتمانى السيادى، فإن المتعاملين فى السوق يساورهم القلق من أن الارتفاع الأخير فى نمو إجمالى الناتج المحلى يحافظ على نمو الاقتصاد بمعدل أسرع من الممكن، وأن مكامن الضعف فى المركز المالى سوف تظهر بسرعة عندما يتباطأ النمو.
وقد عزز الرئيس الإندونيسى برابوو سوبيانتو من احتمالات حدوث زيادة كبيرة فى الدين الحكومى لاستكمال بناء عاصمة جديدة، وزيادة الإنفاق على بنود الدفاع، وتوفير وجبات مدرسية مجانية. وقال إنه ليس لديه أى مشكلة فى السماح بارتفاع نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى إلى %50، ارتفاعا من %39 فى الوقت الحاضر.
وذكر التقرير أن تدفقات رأس المال العالمية لا تزال متقلبة، لكن الاقتصادات الناشئة تعلمت سبل إدارة المخاطر، أو على الأقل الاستجابة لها فى وقت أقرب مما اعتادت عليه من قبل.
وبحسب التقرير، فإن المشكلة الأكبر اليوم تتعلق بالعولمة الحقيقية، فقد كان نمو التجارة العالمية ضعيفا بشكل ملحوظ مقارنة بنمو إجمالى الناتج المحلى فى العامين الماضيين، كما كان عليه الحال طيلة معظم العقد الماضى. ويبدو أن الحرب التجارية العالمية ستكون أشد وطأة فى المستقبل، وفقا للتقرير، ومن شأن ذلك أن يجعل الصادرات أقل موثوقية كمسار نحو النمو بالنسبة للاقتصادات الناشئة.
ضربة مزدوجة.. خفض المساعدات يهدد الاستثمارات
قال مستثمرون إن قرار الولايات المتحدة بتجميد نشاط وكالة المساعدات الأساسية التابعة لها هز الدول المستفيدة من تمويلاتها وقد يجعل من الصعب على الاقتصادات الناشئة جذب الأموال الخاصة.
وذكرت وكالة رويترز أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لم تنفق 44 مليار دولار فى السنة المالية 2023 فحسب، بل إنها تدعم الاستثمار الخاص فى كل المجالات من الرعاية الصحية إلى الشركات الصغيرة، كما تدعم الجدارة الائتمانية للأسواق الناشئة الأكبر حجمًا التى تقترض الأموال من أسواق الديون السيادية.
وبحسب رويترز، فإن إلغاء الوكالة قد يقوض الاستثمار فى دول مثل سريلانكا وجنوب أفريقيا ويجعل الاقتراض من الأسواق الدولية أكثر تكلفة.
يقول المستثمرون إن الحصول على التمويلات من الوكالة يساعد الشركات الناشئة فى أفقر دول العالم على النمو إلى الحد الذى يمكنها من جذب المستثمرين من القطاع الخاص.
وفى مناطق أخرى، تساعد تمويلات صغيرة من الوكالة فى خفض المخاطر التى تتعرض لها البنوك وغيرها من المقرضين الذين يتطلعون إلى الاستثمار فى مشروعات مثل الرى، أو بناء المستشفيات. كذلك يمكن أن يعزز دعم الوكالة قدرة الحكومات على سداد الديون، ودعم اقتصاداتها.
قالت جوليا بيليجرينى، مديرة محفظة ديون الأسواق الناشئة فى أليانز جلوبال إنفستورز، فى إشارة إلى التخفيضات: “إنها لها آثار على الجدارة الائتمانية المتوسطة والطويلة الأجل للبلد”.
ودخل تجميد تمويل المساعدات الخارجية الأمريكية شبه الكامل حيز التنفيذ الشهر الماضى، وقال الرئيس دونالد ترامب إنه يرغب فى تصفية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وبالنسبة لسيمون شوال، الرئيس التنفيذى لشركة Oko الناشئة التى تركز على أفريقيا وتعمل فى مجال تأمين المحاصيل للمزارعين فى مالى وساحل العاج وأوغندا فإن التأثير كان فوريًا.
وقال شوال إن الشركة معرضة لخطر الإغلاق بدون أموال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والتى كانت ستمثل بشكل مباشر وغير مباشر %80 من التدفقات النقدية للشركة هذا العام.
وأضاف “نحن مهددون بتوقف العمل إذا لم نجد أى شركاء بديلين”.
وأشارت رويترز إلى أن التراجع السريع عن تقديم التمويلات قد يؤدى إلى ضرب بعض الدول المتعثرة مثل إثيوبيا وانهيار اقتصادات أخرى.
قال هيمانشو بوروال، محلل ائتمان الأسواق الناشئة فى سى بورت جلوبال: “قد يكون ذلك بمثابة انتكاسة كبيرة لهذه الأسواق الناشئة”.
وبحسب رويترز، فإن الأسواق الناشئة كانت تستعد لعودة المستثمرين بعد سنوات من التدفقات الخارجة بسبب جائحة كوفيد-19، وأسعار الفائدة العالمية المرتفعة وغزو روسيا لأوكرانيا.
وقد عززت عمليات إعادة هيكلة الديون فى غانا وسريلانكا وأوكرانيا الآمال فى أن تساعد التدفقات النقدية الخاصة فى تلبية الاحتياجات المتزايدة من تغير المناخ إلى البنية التحتية.
وقال فلوريان كيميريش، الشريك الإدارى فى شركة KOIS المتخصصة فى الاستثمار، إن سرعة وعمق التخفيضات الأمريكية يمكن أن يقلل من عدد المشروعات القابلة للاستثمار.
وتقدم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عادةً منحًا ودعمًا فنيًا، لكنها أتاحت أيضًا بعض التمويل المختلط، ويهدف صندوق الاستثمار البالغ 70 مليون دولار مع النرويج إلى تدبير مئات الملايين من الدولارات للمزارعين والشركات الزراعية فى أفريقيا.
قال مستثمرو السندات إنهم يراقبون عن كثب التخفيضات والعواقب على دول مثل إثيوبيا، ثانى أكبر متلق للتمويلات من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بعد أوكرانيا.
وتعمل أديس أبابا على إعادة هيكلة سنداتها السيادية الدولارية فى الوقت الذى تتعافى فيه من حرب أهلية قاسية.
قال مدير محفظة أبردين إدوين جوتيريز: “من حيث احتياجات التمويل الإجمالية، فإن المساعدات الأمريكية أكثر أهمية بالنسبة لدول مثل إثيوبيا، إذ لا تملك الكثير من مصادر التمويل المتاحة”.
ووفقا لرويترز، حصلت أوكرانيا على أكثر من 16 مليار دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية العام الماضى، أى ما يقرب من %10 من ناتجها المحلى الإجمالى.
ويمكن لمتلقين آخرين، مثل نيجيريا أو كينيا، أن يعوضوا المساعدات المفقودة بالاقتراض، وقال وزير مالية كينيا لرويترز إن البلاد ستحتاج إلى إعادة تخصيص الإنفاق إذا أصبح التجميد دائما، فى حين زادت نيجيريا حجم ميزانيتها لعام 2025 إلى 54.2 تريليون نيرة (36.4 مليار دولار) من 49 تريليون نيرة.
وتحصل جنوب أفريقيا على %17 من تمويل برنامجها لمكافحة الإيدز من الولايات المتحدة.
سيناريوهات أقل تشاؤماً فى عالم أكثر استقطاباً
منذ عقود عديدة، كان الاقتصاد الدولى مدعوما بمجموعة من القواعد التى يمكن التنبؤ بها بشكل معقول، بقيادة الولايات المتحدة التى اعتقدت أن لديها مصلحة وطنية قوية فى رعاية هذا النوع من القدرة على التنبؤ.
ومع قرار الرئيس دونالد ترامب خلال الأسبوع بإعلان “حالة طوارئ” مفتعلة لغرض فرض تعريفات جمركية معوقة على جيرانه القاريين، انتهى هذا العصر وأصبح من الصعب التنبؤ بالمستقبل.
فى عالم أكثر تقلبا واستقطابا، من المرجح أن تتسم بيئة الاستثمار بعدم اليقين المتزايد، ومع ذلك قد تكمن بعض الفرص فى الأسواق الناشئة.
أدى فوز دونالد ترامب برئاسة أمريكا إلى الكثير من التشاؤم بين خبراء الاقتصاد والمستثمرين فى الأسواق الناشئة، وبدا أن الإجماع قد استقر حول سرد بسيط مفاده أن تهديدات التعريفات الجمركية ستؤدى إلى ارتفاع التضخم، وتقليص التيسير النقدى، وقوة الدولار.
وبالفعل، فقد كان أداء أسهم الأسواق الناشئة أقل من نظيراتها فى الولايات المتحدة منذ الانتخابات، كما تسارعت التدفقات الخارجة من صناديق السندات الناشئة، مما رفع إجمالى التدفقات الخارجة الصافية هذا العام إلى أكثر من 20 مليار دولار.
ومع ذلك، تعتقد شركة TT International للاستثمارات أن هناك أسبابا وجيهة للاعتقاد بأن مثل هذا الإجماع يتجاهل عددًا من السيناريوهات المعقولة.
فى خضم الانتقادات المتبادلة، تبحث دول وشركات أخرى فى جميع أنحاء العالم - بما فى ذلك حلفاء مقربون آخرون - بشكل يائس عن طريقة ما للتعامل مع التصعيد المفاجئ لترامب للحرب التجارية.
والواقع أن الرأسمالية الحديثة قادرة على التكيف بشكل مثير للإعجاب إذ ربما تتمكن أغلب الشركات من اكتشاف كيفية الازدهار فى عالم من التعريفات الجمركية بنفس الكفاءة تقريبا التى نجحت بها فى عالم التجارة الحرة. ولكن عالم التعريفات الجمركية المفروضة عشوائيا، لأسباب غير متوقعة، يجعل التخطيط العقلانى مستحيلا تقريبا.
الرسوم الجمركية
هدد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة %25 على جميع الواردات من كندا والمكسيك، و%10 إضافية على السلع الصينية، كما ألمح إلى أن التعريفات الجمركية على مختلف البلدان وغيرها من التدابير الحمائية سوف تتبع ذلك.
ويبدو أن الأسواق أخذت كلامه على محمل الجد وخلصت إلى أن هذا سيكون له تأثير ملموس على التضخم.
ومع ذلك، فإن هذا يتجاهل العديد من الاعتبارات المهمة أولها، أن العملات تعتبر “ممتص صدمات” عالية الكفاءة يمكنها فى كثير من الأحيان التخفيف من تأثير التعريفات الجمركية، وإذا استمر الدولار فى قوته، فإن الواردات ستصبح أرخص بشكل متناسب.
وتُظهِر الأدلة من رئاسة ترامب الأولى أن تأثير التعريفات الجمركية على الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة تم تعويضه بشكل كبير بهذه الطريقة.
ثانياً، ستسعى الشركات إلى التكيف، على سبيل المثال عن طريق إعادة توجيه التجارة عبر دول أخرى، لتخفيف الضربة، خاصة أن التعريفات الجمركية لا تفلح عادة فى ظل أن “بلد المنشأ” من الصعب للغاية إثباته.
وسيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، مراقبة الشركة المصنعة الصينية التى تسافر بضائعها عبر دول متعددة قبل أن تهبط على الأراضى الأمريكية.
أخيرًا، يفتخر ترامب بأنه صانع صفقات، الواقع أن ترامب معروف باستخدامه للخطاب التحريضى للضغط على الخصوم لإبرام صفقة ــ ما يسمى باستراتيجية “التصعيد من أجل التهدئة”، ومن المؤكد أن ترامب يدرك أن التضخم هو أحد الأسباب الرئيسية لخروج الحكام الحاليين من السلطة فى مختلف أنحاء العالم المتقدم.
وعلاوة على ذلك، فى حين بذل ترامب قصارى جهده للتأكيد على الضرر الذى قد تلحقه التعريفات الجمركية بالاقتصادات المنافسة، فإنها قد تنتهى إلى أن تكون نيراناً صديقة، حيث يتوقع صندوق النقد الدولى أن يكون للتعريفات الجمركية فى الواقع تأثير سلبى أكبر على النمو فى الولايات المتحدة مقارنة بالصين.
وتكتسب الحجة القائلة بأن التعريفات الجمركية أداة تفاوضية قابلة للتعديل بعض المصداقية بعد ترشيح ترامب لمنصب وزير الخزانة سكوت بيسنت، الذى وصف مؤخرا التعريفات الجمركية الشاملة بأنها مواقف “متطرفة”. ولهذه الأسباب كلها، ربما يكون نباح ترامب بشأن التعريفات الجمركية أسوأ من عضته.
يتوقع الإجماع أيضًا أن يكون تأثير ترامب تضخميًا، ليس فقط بسبب التعريفات الجمركية المحتملة، ولكن أيضًا بسبب التهديدات بترحيل ملايين المهاجرين، مما قد يؤدى إلى ضغوط تصاعدية على الأجور، لكن هذا يغفل بعض النقاط المهمة.
كان انتصار ترامب يرجع جزئيًا إلى رد فعل عنيف ضد التضخم، والذى ألقى الناخبون باللوم فيه على بايدن.
ومع ذلك، يبدو من المؤكد أننا ندخل عالمًا أكثر تقلبًا واستقطابًا سيشهد تباعدًا متزايدًا فى الأداء بين الفائزين والخاسرين نسبيًا.
الأسواق «ذات التوجه المحلى» أقل عرضة للخطر
فى مذكرة بحثية صادرة عن مجموعة سيتى، ركز فريق بحثى بقيادة جوهانا تشوا على سياسات ترامب فى عيون الأسواق الناشئة، وتشمل حالة عدم اليقين، والتعريفات التجارية الأكثر جرأة، والسياسة الخارجية الأكثر تشددا.
وذكر التقرير أن هناك أربعة دروس تستخلص من الأسابيع الأولى لترامب فى البيت الأبيض، أولا، أن السرعة التى ظهرت بها الأوامر التنفيذية غير مسبوقة فى التاريخ الأمريكى، علاوة على استخدام قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية لتجاوز التشريعات مما يجعل من الصعب التنبؤ بالسياسة الأمريكية.
ثانيا، شهد ترامب مواقف أكثر جرأة ومواجهة فى السياسة الخارجية، بما فى ذلك مع الحلفاء التقليديين، على سبيل المثال، تلقت كندا والمكسيك ضربة تعريفة أولية أثقل (%25) من الصين (%10).
وبحسب التقرير، فإن إدارة ترامب على استعداد لنشر تهديدات بفرض تعريفات أوسع نطاقا، كما فى حالة كولومبيا، ويرجع ذلك إلى توقعاتها بأن يتم تقديم تنازلات بسرعة. هذا النهج أكثر خطورة مع الصين، التى تتمتع بنفوذ اقتصادى وسياسى أكبر ومن غير المرجح أن تخضع للضغوط لتقديم تنازلات سريعة، وفقا للتقرير.
وأشار التقرير إلى أن إدارة ترامب على استعداد لتبنى نهج أكثر تشددا فى السياسة الخارجية لتأمين المصالح الجيوسياسية والتجارية للولايات المتحدة، كما تُظهر النزاعات المتعلقة بجرينلاند وقناة بنما، وقد يواجه نفوذ الصين التجارى والاستثمارى المتزايد فى أمريكا الوسطى واللاتينية قيودًا، مع احتمال مواجهة المكسيك وأمريكا الوسطى وكولومبيا أقوى ضغوط أمريكية.
وأوضح التقرير أن تجميد المساعدات الخارجية الأمريكية ليس له تأثير كبير فى الأسواق الناشئة ، إذ من الممكن أن ترتبط المساعدات بشكل متزايد بالتنازلات الاستراتيجية أو غيرها، مع بقاء أوكرانيا فى موقف ضعيف نسبيا.
وبحسب التقرير ، فإن إحدى القضايا الهامة بالنسبة للأسواق الناشئة هى احتمال سحب الدعم الأمريكى لمؤسسات الإقراض الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولى، والتى تشكل شرايين حياة للعديد من بلدان الأسواق الناشئة ذات التمويل الهش.
ثالثا، يبدو أن صناع السياسات فى الصين يفضلون الصبر والتفاوض، فى الوقت الذى يبدو فيه المستثمرون متفائلين بشأن التعريفات الأمريكية ضد الصين. وكان رد الصين على فرض تعريفات بنسبة 10% هو استخدام مجموعة أوسع من أدوات السياسة بدلا من الانتقام عبر التعريفات الجمركية، وهى استجابة تهدف إلى إظهار قدراتها، بحسب التقرير.
رابعا، يبدو أن الاستخدام المبكر للتعريفات الجمركية أقل استهدافا مما كان عليه فى الماضى، فعلى الرغم من التقارير التى تحدثت عن موجة من الضغوط، فإن صادرات الطاقة الكندية حصلت على استثناء خاص (تعريفة بنسبة %10 مقابل %25)، وفى حين تم تعليق التعريفات الجمركية على المكسيك وكندا لمدة شهر، فقد تظل الشكوك قائمة بشأن عودتها إلى الظهور، وبحسب التقرير، فإن الأسواق الناشئة قد تتأثر أيضا بروابط سلاسل الإمداد بالواردات الأمريكية من الصين والمكسيك وكندا.
التعرض لسياسة التجارة “أمريكا أولاً”
أصدر ترامب مذكرة تحدد سياسة التجارة على أساس أمريكا أولاً، داعياً إلى إجراء تقييمات من قبل الوكالات للسياسة التجارية الأمريكية، وبحسب التقرير، فإنه من المتوقع أن تتحمل الصين والاتحاد الأوروبى العبء الأكبر من التدقيق فى عجز التجارة السلعية، لكن المكسيك والعديد من مناطق شرق آسيا، بما فيها فيتنام وتايلاند واليابان وكوريا والهند وتايوان، من المرجح أن تظل عُرضة للخطر أيضا، ورغم أن الصين والاتحاد الأوروبى أكبر مصدرين للعجز التجارى الأمريكى، فإنه من المستبعد أن تنظر الإدارة الأمريكية فى كيفية تطور هذه الفجوة التجارية.
وبحسب التقرير، فإن الهند اتخذت خطوات استباقية لتجنب استهدافها بسبب التعريفات الجمركية الكبيرة، فقد كشفت ميزانيتها للسنة المالية 2026 عن تدابير لخفض التعريفات الجمركية، مع تخفيضات على بنود رئيسية يُنظر إليها على أنها أساسية للمصالح الأمريكية.
ومع فقدان معظم البنوك المركزية لاحتياطياتها للدفاع عن عملاتها فى ظل قوة الدولار الأمريكى، من المستبعد أن تترجم مراجعة إدارة ترامب للتلاعب بالعملة إلى خطر كبير من رد فعل عكسى على التعريفات لكن هذا يوضح حساسية الولايات المتحدة لانخفاض قيمة العملات الأجنبية بشكل كبير بين البلدان ذات الفائض، وخاصة فى شرق آسيا.
وذكر التقرير أن مراقبة التجارة الصينية تلوح فى الأفق، إذ يمكن لإدارة ترامب استهداف الشركات المصدرة المملوكة للصين فى فيتنام وتايلاند. ووفقا للتقرير، فإن أحد الخيارات المحتملة لتلك البلدان هو تقديم صفقات شراء السلع الأمريكية، وإن كان من غير المرجح أن تكون ذات مغزى كاف لسد الفجوة التجارية.
وخلص التقرير إلى أن هذه العوامل تؤدى إلى بيئة من عدم اليقين التجارى المتزايد الذى قد يخلق عبئا على النمو الاقتصادى. وإلى جانب الصين، فإن هذا يزيد من خطر إضعاف النمو فى اقتصادات الأسواق الناشئة المعتمدة على التجارة فى شرق آسيا (سنغافورة وماليزيا وتايوان وفيتنام وكوريا وتايلاند)، وفى وسط وشرق أوروبا، وفى البلدان المستهدفة القريبة من مدار التجارة الأمريكية، مثل المكسيك.
أما الأسواق الناشئة ذات التوجه المحلى والتى يمكن القول إنها أبعد عن التدقيق من قِبَل إدارة ترامب مثل الأرجنتين والبرازيل ومصر والهند وإندونيسيا والفلبين وتركيا، أو البلدان الأصغر حجما فإنها أقل عرضة للتأثير المباشر لسياسة أمريكا أولا.
بعيدا عن الدولار.. هونج كونج تفتش فى مكاسب «فرص التمويل»
تتطلع البنوك فى هونج كونج إلى فرص لتمويل التجارة فى الأسواق الناشئة فى ظل تغير سلاسل الإمداد والتدابير الحكومية المصممة لتعزيز دور المدينة كمركز لليوان فى الخارج، بحسب تقرير نشره موقع The Banker.
وحددت البنوك منطقتى جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط كأسواق رئيسية لفرص تمويل التجارة، ومن بين الأسواق المستهدفة إندونيسيا، وفيتنام، وتايلاند، وماليزيا، والفلبين، وكمبوديا، والسعودية، والإمارات.
قالت كارمن تشان، من بنك ستاندرد تشارترد: “نحن نرى فرصًا خاصة فى منطقة الآسيان والشرق الأوسط، إذ بذلت حكومة هونج كونج جهودًا كبيرة لتعزيز العلاقات التجارية خلال السنوات القليلة الماضية”.
وتخطط جمعية بنوك هونج كونج لتشكيل مجموعة عمل خلال الربع الأول تركز على وضع التدابير لجذب عملاء الأسواق الناشئة. ووفقًا لوسائل الإعلام المحلية، ستسعى المجموعة إلى تعزيز مكانة هونج كونج كأكبر مركز لليوان فى الخارج.
وجاء هذا الإعلان فى أعقاب إطلاق هيئة النقد فى هونج كونج لمرفق تمويل التجارة باليوان بقيمة 100 مليار يوان (13.9 مليار دولار أمريكي).
ويهدف تعزيز سوق اليوان الخارجية فى هونج كونج إلى تلبية الطلب المتزايد على الأموال لتمويل التجارة، ووفقًا لـ Swift، فإن اليوان هو أحد أكبر ثلاث عملات فى العالم لتمويل التجارة ورابع أكثر العملات نشاطًا فى المدفوعات العالمية.
قال كوك ليونج لى، رئيس قسم التمويل التجارى والإقراض وإدارة النقد للشركات فى دويتشه بنك فى الصين: “نعتقد أن الشراكات المتعددة الأطراف وعروض المنتجات المالية المتخصصة وإدارة المخاطر ضرورية فى إدارة ملفات المخاطر فى الأسواق الناشئة”.
وأوضح لى أن البنك يدير مخاطره من خلال الشراكات مع أطراف ثالثة مثل شركات التأمين ووكالات تأمين الائتمان للصادرات والوكالات المتعددة الأطراف.
وقال سافيو فان، مدير فريق البنوك لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ فى وكالة فيتش للتصنيف الائتمانى: “تعمل بعض البنوك فى هونج كونج على توسيع نطاق انتشارها الجغرافى استجابة لمتغيرات التجارة الإقليمية، على الرغم من أننا نرى أن حجم هذه التوسعات لا يزال محدودًا”.
وتدير العديد من البنوك مخاطر التوسع من خلال السعى إلى إقامة شراكات مع كيانات أقوى أو شركات كبرى لدخول الأسواق المستهدفة.
على سبيل المثال، يستفيد بنك الصين (هونج كونج) من الاتصال بشركته الأم فى البر الرئيسى للمساعدة فى إدارة المخاطر فى دول الآسيان حيث يوسع أعماله.
قال مايكل مكداد، كبير محللى الأسهم فى مورنينج ستار: “يمكن أن تساعد سلطة النقد فى هونج كونج البنوك على توسيع حجم إقراضها عندما يكون المقترضون أقل رغبة فى الاقتراض بالدولار الأمريكى، من خلال خفض تكلفة التمويل للبنوك”.
وفى يناير 2025، وقعت مؤسسة التمويل الدولية وبنك إتش إس بى سى على اتفاقية مرفق لتقاسم المخاطر بقيمة مليار دولار بهدف مساعدة البنوك فى الأسواق الناشئة على زيادة إقراضها لدعم التجارة، فى الوقت الذى تستفيد فيه البنوك من الرقمنة لتعزيز المرونة التشغيلية والكفاءة وإدارة المخاطر.
