رغم أن الاضطرابات التى أحدثها نموذج الذكاء الاصطناعى “ديب سيك” فى الأسواق كانت قصيرة الأجل، فإن الابتكار الذى قدمته الشركة الصينية من خلال نموذجها المتقدم والرخيص يحمل آثارًا طويلة الأمد على التكنولوجيا، والتجارة، والعلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، ويبرز فى المشهد أربع رؤى رئيسية حول تأثيرات هذا التطور وفقا لتقرير نشرته وكالة “رويترز”.
ابتكارات الذكاء الاصطناعى تعمل دائمًا على تحقيق المزيد مقابل تكلفة أقل، حيث انخفضت تكاليف نماذج الذكاء الاصطناعى الرائدة بنسبة %80 سنويًا خلال العامين الماضيين، ومع إطلاق “ديب سيك”، تسارعت هذه الوتيرة بفضل تحسينات خوارزمية الشركة وإستراتيجيات التسعير الجريئة، هذا الانخفاض فى التكاليف سيستمر مع تطور الأبحاث وزيادة المنافسة، مما يمهد الطريق لانتشار أوسع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
إعادة توزيع القيمة الاقتصادية
مع تراجع تكاليف الذكاء الاصطناعى وزيادة سهولة الوصول إليه، ستتسع قاعدة استخدامه، حيث سيؤدى ذلك إلى تحول القيمة الاقتصادية من تدريب النماذج الأساسية إلى التطبيقات العملية، وسيتزايد الطلب على المعالجات المصممة لمهام محددة (XPUs) على حساب المعالجات التقليدية (GPUs) المستخدمة فى التدريب، فعلى سبيل المثال، أشارت شركة “إنفيديا” إلى أن الطلب على المعالجات المستخدمة فى التطبيقات تجاوز الطلب على التدريب بنسبة %40.
كما أن توفير النماذج المفتوحة المصدر مثل “ديب سيك R-1” يفتح المجال للابتكار على نطاق أوسع فى الأوساط الأكاديمية والمجالات الأخرى، مما يعزز تنوع الأبحاث ويزيد من تسارع التقدم التكنولوجي.
الحاجة لإعادة تقييم سياسات تصدير الرقائق الأمريكية
نجحت “ديب سيك” فى تحقيق إنجازاتها باستخدام رقائق أقل تطورًا مقارنة مع منافسيها الأمريكيين، مما يظهر أن التحديات يمكن أن تخلق فرصًا للابتكار، ومع ذلك، فإن القيود الأمريكية على تصدير الرقائق قد تُعيق الشركات الصينية على المدى القصير، لكنها لا تستطيع إيقاف تقدمها بالكامل.
بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدى هذه القيود إلى عزل التكنولوجيا الأمريكية عن السوق الصينية، مما يؤثر سلبًا على الجهود الأمريكية لتقليل العجز التجارى مع الصين، هذا التوازن بين فوائد وعيوب القيود الحالية يتطلب إعادة تقييم دقيقة من صناع القرار فى واشنطن.
تقارب المصالح بين القادة التقنيين فى الولايات المتحدة والصين
رغم القلق الأولى من تطور “ديب سيك”، رحب العديد من قادة التكنولوجيا الأمريكيين بالنموذج الجديد، وقامت منصات كبرى مثل “مايكروسوفت” و”أمازون ويب سيرفيسز” و”Hugging Face” بدمج نماذج مستندة إلى “ديب سيك R-1”، حيث يرون فى هذه النماذج وسيلة لزيادة الطلب على خدماتهم السحابية.
وعلى المدى البعيد، يمكن أن تحقق تطبيقات الذكاء الاصطناعى إنتاجية أعلى وخفضًا للتكاليف، خصوصًا فى الولايات المتحدة التى تواجه تحديات مرتبطة بارتفاع الأجور ونقص المواهب فى مجالات العلوم والتكنولوجيا.
ورغم ذلك، تبقى التوترات التجارية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين تحديًا كبيرًا، فالتعاون بين القوتين العظميين قد يكون ضروريًا لدفع الابتكار فى الذكاء الاصطناعى نحو الأمام، خصوصًا مع السعى لتحقيق الذكاء الاصطناعى العام، إلا أن الانقسامات المستمرة قد تعيق هذا التقدم.
وفى النهاية، يمثل “ديب سيك” تذكيرًا بمدى سرعة التحولات فى عصر الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك إشارة لبداية حقبة جديدة من التعاون أو تصعيد المنافسة العالمية.
تصريحات متباينة من قادة التكنولوجيا والاقتصاد
وصرح الرئيس التنفيذى لشركة “ألفابت”، ساندر بيتشاي، خلال مشاركته فى القمة العالمية للحكومات التى عقدت فى دبى بأن شركة “ديب سيك” الصينية الناشئة قدمت عملا جيدا يعكس الطبيعة العالمية للتطور فى مجال الذكاء الاصطناعي.
وأكد “بيتشاي” أن شركته تتوقع أن تظل لاعبا رئيسيا فى مجال الذكاء الاصطناعي، لكنه أشار أيضا إلى أن هناك جهات أخرى ستتنافس فى هذا المجال.
فى سياق متصل، أبدى مجلس حماية البيانات الأوروبى مخاوفه بشأن تطبيق “ديب سيك”، مشيرا إلى أنه قد يواجه المزيد من الإجراءات التنظيمية من قبل السلطات الوطنية فى المستقبل. وتأتى هذه التحذيرات بعد أن أقدمت إيطاليا على حظر التطبيق بسبب عدم تقديم معلومات كافية حول كيفية استخدامه للبيانات الشخصية، كما باشرت دول أخرى، مثل فرنسا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، التحقيق فى ممارسات جمع البيانات الخاصة بالتطبيق.
وذكر متحدث باسم المجلس الأوروبى لحماية البيانات أن العديد من السلطات المعنية بحماية البيانات بدأت بالفعل اتخاذ خطوات تجاه “ديب سيك”، مشيرا إلى إمكانية اتخاذ المزيد من الإجراءات فى المستقبل.
وأضاف المتحدث أن المجلس يعمل على توسيع نطاق فريق العمل الخاص به لتعزيز التعاون وتبادل المعلومات بين الدول الأعضاء حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
من جانبه، أكد وزير الطاقة الإماراتى سهيل المزروعى أن تطوير شركة “ديب سيك” لن يؤثر على الطلب على الطاقة النووية، مشيرا إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعى التى تعتمد على استهلاك أقل للطاقة، مثل تلك التى تقدمها “ديب سيك”، تعكس أهمية تحقيق كفاءة الطاقة دون المساس بالطلب على مصادر طاقة ثابتة مثل النووية.
تأتى هذه التطورات وسط جدل عالمى حول تأثير الذكاء الاصطناعى على الاقتصاد والطاقة والخصوصية، حيث تسعى الحكومات والشركات للتكيف مع الابتكارات السريعة فى هذا المجال، بينما تبقى التحديات التنظيمية وحماية الخصوصية فى صدارة الأولويات.
