تأملات فى السياسة الخارجية للرئيس بايدن 4
المفهوم الذى أطَّر السياسة الخارجية لإدارة الرئيس بايدن هو “سياسة خارجية من أجل الطبقات الوسطى الأمريكية”، وهو مفهوم طوّرته مجموعة من الخبراء ضمت جيك سوليفان الذى أصبح مستشار الرئيس للأمن القومى. وهناك وثيقة تفصيلية موجودة على موقع مؤسسة كارنيجى لمن يرغب بأن يقرأها. الفكرة الرئيسة هى اتباع سياسة خارجية تحقق مصالح طبقات وسطى بالغة الحيوية فى أى مجتمع وتعانى فى عدة دول تبِعات العولمة، ويعنى هذا، على الأقل، أن البعد الاقتصادى يجب أن يكون حاضرًا فى حسابات وقرارات القادة، وفى أى سياسة يرسمونها وينفذونها، وأن الالتزام بقواعد التجارة الحرة مقيد، إلى حد ما، بشرط عدم الإضرار بمصالح الطبقات الوسطى. وفى هذا اعتراف ضمنى بأن العولمة كما حدثت أفادت أساسًا الطبقات الغنية للغاية، والرأسمالية المتوحشة. تقتضى هذه المقاربة تحديد مَن هم أبناء الطبقات الوسطى، ومصالح كل فئة يمكن أن تصنَّف كهذا، وتحديد مفهوم المصالح. مثالٌ يوضح قصدى. لنفترض كادرًا فى شركة متعددة الجنسيات، دخلُه تضاعف مرتين بفضل العولمة، لكنه بات عاجزًا عن أخذ إجازة، ويعيش دائمًا فى رعب من الطرد، أو من قيام الشركة بتغيير مقر مركزها الرئيس، هل يُعد مستفيدًا أم متضررًا؟ لو القارئ خُيِّر بين عقد سنة براتب أربعة آلاف دولار شهريًّا دون إجازة، وعقد ثلاث سنوات براتب ثلاثة آلاف مع شهر إجازة فى السنة... أيهما أحسن له؟ الرد ليس واضحًا.
وهناك عدة مشكلات فى هذا المفهوم، منها أن سياسة خارجية تفيد اقتصاد الولايات المتحدة لا تفيد بالضرورة كل الفئات، وأن مصالح مكونات الطبقات الوسطى قد تُعارض بعضها البعض، ومنها أن المصالح الآنية لفئة قد تتعارض ومصالحها على المدى الطويل، ومنها أنه لا يوجد ما يضمن أن ترتيب الأولويات وتحديد المصالح الأَوْلى بالرعاية لن يفضلا الفئات القادرة على الضغط على الإدارة أو على الكونجرس، وهى ليست بالضرورة أكثرها عوزًا، وهناك مشكلات تتعلق بالوقت المتاح، الموازنة الدقيقة بين المصالح المتباينة تتطلب وقتًا، فى حين أن تداعيات الأحداث قد تتطلب تعاملًا سريعًا.
كيف نصنف قانون تخفيض التضخم الذى دخل حيز التنفيذ فى مطلع 2023؟ هو قانون يهدف إلى الحد من العجز العام فى الولايات المتحدة، وخفض أسعار الأدوية، والاستثمار فى إنتاج الطاقة المحلية، والترويج للطاقة النظيفة. لكن بعض مواده أعطت أولوية شِبه مطلقة لما هو منتَج فى الولايات المتحدة مما يُخل بقواعد التجارة الحرة وبمصالح دول الاتحاد الأوروبى. هل هذا القانون “سياسة داخلية” أم “سياسة خارجية” أم مزيج من الاثنين... وطبعًا هذا السؤال يخص كل الإجراءات الحمائية.
الاعتبارات الداخلية تلعب تقليديًّا دورًا كبيرًا فى رسم السياسة الخارجية الأمريكية. على سبيل المثال، فَرَض سؤالُ توسيع «الناتو» وضم دول أوروبا الشرقية إليه، نفسَه فى التسعينيات من القرن الماضى، وهناك عشرات من الأسباب الإستراتيجية لقبول مبدأ التوسع، وعشرات من الأسباب الإستراتيجية لرفضه، ما حَسَم الجدل هو المصالح الانتخابية للحزب الحاكم؛ أى حاجته إلى أصوات الأمريكيين من أصل بولندى فى بعض الولايات. وقرأتُ فى التسعينيات دراساتٍ تشكو من وزن الأمريكيين من أصل كوبى فى رسم سياسة واشنطن تجاه هذه البلاد. وكلنا نعرف أن الاعتبارات الداخلية وجماعات المصالح المختلفة تلعب دورًا فى تحديد توجهات السياسة الخارجية فيما يخص منطقتنا.
لكن هناك فارقًا بين سياسة تحقق مصالح أو تتفق وأهواء فئات كبيرة، وتلك التى تحقق مصالح أو تتفق وأهواء مجموعات صغيرة، وفارق بين سياسات تحقق مصالح فئات دون الإضرار بمصالح الجمهور العريض، أو بالمصالح القومية، وسياسات تحقق مصالح فئات صغيرة وتلحق ضررًا بليغًا بمصالح الأمة والجمهور العريض. وهناك طبعًا سياسات قد تكون ضرورية لتحقيق المصالح، لكنها تلقى معارضة شرسة من الرأى العام أو من قطاعات مؤثرة من النخب.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
