Ad

تأملات فى السياسة الخارجية للرئيس بايدن (3)

قد يكون من الممكن إيجاد علاقة واضحة بين إدارة الرئيس بايدن للملف الروسى والصور الذهنية التى تشكلت وتجذّرت فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ولكننى لا أتصور أنها السبب الرئيس للفشل النسبى لهذه الإدارة.

المشكلة فى رأيى أن الولايات المتحدة وأوروبا لم يستعدا للتصدى للمشروع الروسي، الساعى إلى العودة إلى مبادئ “يالطا”، أى إلى تقسيم أوروبا وربما العالم إلى مناطق نفوذ، أو على الأقل إلى فرض الوصاية أو السيادة على الدول السلافية التى تدين بالمذهب الأرثوذكسي.

وهذا التقصير يعود إلى المبادئ والتصورات التى حكمت السياسات الخارجية الغربية بعد انهيار الشيوعية والقراءة الغربية لأسباب وتبعات هذا الانهيار. لا أريد أن أبالغ فى القسوة لأن انهيار المعسكر الشيوعى أوجد تهديدات جديدة، أدى التعامل معها إلى منح شرعية لهذه المبادئ والتصورات.

باختصار قد يكون مخلا، الصراع بين قوميات أوروبا الشرقية كان من أهم أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأحيت الحروب التى اندلعت فى بداية التسعينيات بعد انهيار يوغسلافيا الذكريات الأليمة، وكان الخطر مخيفا، لأن روسيا كانت أيضا على وشك التفكك، ولم يكن أحد يريد أن يتعامل مع عدة دول أو دويلات لكل منها أسلحة نووية ورثتها من الاتحاد السوفييتي.

تعاملت الولايات المتحدة وألمانيا – ومعهما باقى الدول الأوروبية- مع هذه المعطيات بمنهجين مختلفين وإن كان بينهما مشترك، من ناحية بذلت الدولتان أقصى جهد لدعم السلطة المركزية فى موسكو، وغضّت النظر عن أسلوب تعامل الدولة مع المحاولات الإنفصالية للشيشانيين، ومن ناحية أخرى سعت إلى إدخال دول أوروبا الشرقية فى الناتو وفى الاتحاد الأوروبي، لمنع نشوب النزاعات بينها، ولدفعها إلى التركيز على الإصلاح السياسى والاقتصادي، ولتطمينها لأن الخطاب الروسى كان مثيرا لمخاوفها – حتى فى أيام يلتسين. ولأسباب كثيرة منها تطمين الروس والمشهد الداخلى فى هاتين الدولتين لم يتم ضم لا أوكرانيا لا جورجيا.

المشترك بين المنهجين هو “المشروع الإمبراطوري” أو “الشبه إمبراطوري”، وهو شكل اعتادت عليه هذه المناطق، ولهذه المشروعات عيوب ومميزات، منها إنها تفرض سلاما على شعوب قد تتناحر إن اختفت الإمبراطورية، وتزيل الحدود الداخلية بين مكونات الإمبراطورية، وتؤطر العلاقات بين الشعوب التابعة لها بما يسمح بالتعايش والتعاون والتمازج.

الحالة الروسية كانت واضحة، أما الاتحاد الأوروبى فكان وما زال كائنا هجينا وإن كان أقرب إلى الإمبراطورية. فهو كائن تصور أنه ليس فى حاجة إلى قوات مسلحة ولا إلى قوة غاشمة، رغم سعيه الدؤوب إلى التمدد، لأنه رأى نفسه حاملا لمشروع جذاب يريد الجميع الاشتراك فيه، فهو – وفقا لأصحابه- يحمل الخير للجميع، ولم يعد له منافس بعد انهيار الشيوعية.

المفكر الأمريكى الكبير فوكوياما عبر عن حالة النشوة التى سادت فى العواصم الغربية فى العقود التى تلت انهيار الشيوعية، وكتب ما كتبه عن نهاية التاريخ، الكتاب أذكى مما يقال، وأكثر حصافة من عنوانه، وهو مدخل جيد إلى فكر آدم سميث وهيجل. ما قاله فوكوياما هو أن التاريخ أثبت أن أفضل نظام سياسى اجتماعى فى العالم هو النظام الذى يجمع بين الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق. قد تكون عليه مآخذ ولكنه أفضل بكثير من الأنظمة الشمولية أو السلطوية. أى ما انتهى وفقا لفوكوياما هو تاريخ الفكر السياسى وليس التاريخ.

هذا الكلام مردود لأن فوكوياما لم يناقش – إن لم تخنّى الذاكرة- مقولات أعظم عمالقة الفلسفة – أفلاطون وأرسطو- اللذين شددا على ميل الديمقراطية إلى التدمير الذاتى وإلى التدهور، كما نسى أو تناسى كلام ماركس الذى أثبت أن الرأسمالية عرضة لأزمات عنيفة بين حين وآخر، صحيح أن ماركس قال إن النظام الرأسمالى سينهار ويسقط حتما، وأن هذا لم يثبت إلى الآن، ولكن التخلص من كلام ماركس و/أو هيجل المزعج ليس ممكنا..

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية