تدخل قضية مصر والمصريين ضد نسخة تمثال شامبليون 1875، منعطفًا حاسمًا لتحديد من هو خصم مصر فى هذه القضية؟ هل هو النحات الفرنسى أوجست بارتولدى مُبدع التمثال؟ أم شخص العالم الفرنسى شامبليون؟ أم دولة فرنسا، باعتبار أن النحات والعمل الفنى فرنسيان، وموقع التمثال باريس؟ وهل بتقديم مصر والمصريين شكوى رسمية لوزارة الثقافة الفرنسية (بإقصاء هذا التمثال إلى متحف بارتولدى بمدينة كولمار)، تعتبر ضد فرنسا واحترامها لتاريخها وتدخلا فى شأنها؟ أم أن ألم الكرامة المصرية موجه إلى عمل فنى محدد، من تصميم نحات فرنسي، يمكن إثبات خطأه ومسؤوليته الفنية التقصيرية المهينة لمصر والمصريين وحضارتهم بأضرار تمت وتتنامى مع الزمن؟ وهل بقبول فرنسا تنصيب هذا التمثال بمدخل السوربون/ كوليج دى فرانس، ما يعنى موافقتها على هذه الإهانة وإيوائها وحمايتها كرمز لحماية جزء من التاريخ الفنى الفرنسي، بما يجعلها شريكا لبارتولدى فى هذه مسؤوليته عن تلك الأضرار؟
تبدو خطورة التصدى لهذه الأسئلة، فى أهمية منع خلط الأوراق والمسؤوليات، وتحديد صاحب الصفة فى توجيه الغضب الشعبى والرسمى المصرى نحوه! وللتوضيح؛ فشخص وعلم شامبليون خارج هذه المعادلة تماما! فالتمثال تم بعد وفاته، ولم ينكر أحد إسهامه فى استكمال جهود وأبحاث ٤ علماء ممن سبقوه (بداية من ابن وحشية قبله بـ8 قرون، كما هو مثبت فى كتابه المودع بالمكتبة الوطنية بباريس، واعتراف شامبليون ذاته به كمرجعية أساسية له فى أبحاثه)، فى اكتشافهم لفك رموز الحضارة المصرية القديمة وإعادة تاريخها للحياة.
أما النحات بارتولدي، فكل المصادر الفرنسية تدعم رؤيته الفنية للتمثال، كإعجاب بعبقرية شامبليون، فجعله رمزا لأهمية إرثه فى تحقيق النصر على الجهل، وتقدير المعرفة والعلم، فى صورة الحذاء الشامبليونى يدعس رأس الملك المصري، كترجمة لانتصار العلم على العوائق الثقافية والتاريخية! فكان تفاعل تاريخ شامبليون مع فن بارتولدى هما والدى هذه الأيقونة، التى فسرها بارتولدى ذاته – طبقا لنص الصفحة الرسمية للكوليج دى فرانس فى التعريف بالتمثال – ((من خلال دمج أبو الهول الإغريقى مع أبو الهول المصري، ساوى بارتولدى بين شامبليون وأوديب: “أردت أن أجعل شامبليون مثل أوديب الذى ينتزع السر من أبو الهول”، كتب ذلك عام 1867. ولكن على عكس هذه التقاليد، لا يمثل بارتولدى الشخصيتين وجهًا لوجه. نظرًا لأنه كان يملك كتلة واحدة فقط، اضطر للعمل على محور عمودى يضع العالم فى موضع المسيطر. وهكذا، يصور بارتولدى شامبليون كالشخص الذي، بعد حله لغز أبو الهول، المحطم عند قدميه، يقف متأملًا أمام الحضارة التى تكشفت أمام عينيه. يُظهر العالم فى وضعية تجمع بين الانتصار والتواضع فى آنٍ واحد: منتصرًا على لغز الهيروغليفية، ليرى أمامه عظمة ثقافة أصبح من مسؤوليته الآن فهمها)) – ومع ذلك لم يفسر الموقع أو الكوليج دى فرانس و البارتولديين الألغاز التالية (1) لماذا لم يضع بارتولدى حذاء شامبليون على حجر رشيد الذى انتصر عليه، وفيه رمزية توثيق الحضارة بالكامل؟ (2) النسخة الاولى لتمثال شامبليون وضعت بمدخل معرض اكسبو باريس 1867، وكان حذائه على رأس تمثال ابوالهول – كأسطورة وليس الانسان - فلماذا استبدل بارتولدى أبوالهول برأس إنسان ملك فى نسخة 1875 الموجودة بالسوربون؟ (3) ارتباط شامبليون باللغة الهيروغليفية التى يمثلها حجر رشيد، وليس بملك مصرى – مرجح بين 3 شخصيات ملكية عظيمة – فلماذا تحتضن الكوليج دى فرانس حذاءً يدعس رأسًا ملكيًا بداعى تقدير المعرفة، بعدما غيّر فى نسخته الأصلية، المطابقة لمقولته كإشارة الجامعة فى انتزاعه السر من أبو الهول بنسخة 1867؟ بما يجعل التمثال مثيرا لجدلية تعبير الفن عن علاقات السلطة بالمعرفة بالفوقية!
تمت نسخة تمثال شامبليون 1875 بعد رفض الخديوى إسماعيل لتمثال بارتولدى بمدخل قناة السويس 1869 (وهى واقعة تاريخية موثقة)، ومع انعدام الأجوبة عن الألغاز الثلاثة السابقة، فالتحليل التاريخى والفنى والشخصى للواقعة، يوجب سؤال: هل خسارة الفنان للربح والشهرة تمنحه حقا لاستخدام فنه ضد كرامة الإنسان وأعظم حضارة فى التاريخ الإنساني؟ الألغاز الثلاثة السابقة التى طرحتها، أيقونة حجة الكرامة المصرية فى قضية مصر والمصريين ضد النحات بارتولدي، وليس فرنسا! فنحن فعلا بصدد عمل فنى بالمقاييس الجمالية والتاريخية، يعتبر أثرا ورمزا لحقبة إنجازات علمية فرنسية، وشخصية مؤثرة علميا كشامبليون، وتوثيقا لعلاقتهما بالحضارة المصرية القديمة، ولكن على حساب إرثها، وسمعتها، وكرامتها وكرامة أبنائها إلى يوم الدين! فلا معنى أو قيمة أو رمزًا لتوثيق تقدير العلم والمعرفة بدعسه لرأس إنسان وملك من جنسية أخرى وذى حيثية عند أهله وتاريخه! اللهم إلا كان المقصود هو إخفاء بارتولدى أهدافًا شخصية أخرى باستبدال أبو الهول برأس الملك المصري! وهنا لا مجال لزعم حسن نية بارتولدى بحب مصر أو تقديره لشامبليون، أمام واقعة هدم ملك مصر فى شخص إسماعيل لحلمه فى الشهرة والثروة بتنصيب تمثاله بمدخل أهم شريان مائى فى العالم!
لذلك فان الفكر والثقافة والإدارة الفرنسية الرائعة، غير مستبعد منها أن تتبنى رؤية الكوليج دى فرانس فى وجهة نظر بارتولدى لتمثال شامبليون فى نسخته الأصلية 1867 حسب قوله! فى حين أن نسخة تمثال السوربون 1875 تتناقض تماما مع مقولته المعلنة وتعريف الجامعة للتمثال! وبالتالى فغير متصور أبدا أن الإدارة الفرنسية تتعمد حماية رمز يوثق إهانة مصر والمصريين! فإذا صرخت مصر والمصريين من ألم هذه الإهانة والإساءة، وأثبتت لفرنسا وجهة نظرها بالمعطيات التاريخية والفنية والمستندية، فغير مستغرب أبدا أن تبادر فرنسا لتصحيح الوضع، وإعفاء هذا التمثال المُهين من معناه المتعمد للضرر، وإعادته لمنزل صانعه هو أولى به، بدلا من دس سموم رسائله العنصرية فى عيون جمهور، وزوار الكوليج دى فرانس العريقة، والعالم أجمع!
الموضوع خارج إطار حماية واعتزاز فرنسا بتراثها الفني، أو اعتبارها خصما فى قضية ورطها فيها مواطنها الموتور! القضية ضد عمل فنى مُسيء طبقا لقانونى التراث والبيئة البصرية الفرنسي، خطأ صانعه ثابت، وضرره مستمر، والمضرورين منه حقيقيون! فالعدالة والموضوعية الفرنسية تطالب إدارتها بالاستجابة لمطلب مصر والمصريين لإعادة التمثال لمتحف كولمار. وما إنجاز فرنسا ببعيد فى استعادتها كرامة جان دارك بعد إدانتها وحرقها على يد الإنجليز، فتكون بنقلها تمثال شامبليون من موقعه المريب بالسوربون، وإعادته لموطن صانعه، مُصححة بشجاعة وكرامة، لفهم خاطئ سيطر 150 عاما من الإهانة، وتضليل بارتولدى لرمزية التمثال فى فرض العنصرية الثقافية الفرنسية، ومناقضة لمبادئ ثورة أنارت بها فرنسا العالم من حرية وإخاء ومساواة، ونجح الفنان فى وصمها بعمله المهين، الجدير بمحاكمته من الضمير الفرنسى قبل المطالبة المصرية.
* محامى وكاتب مصرى
