الذكاء والغباء فى السياسة نظريات المؤامرة (5)
ما زلت باحثًا عن أسباب شعبية نظريات المؤامرة فى بلادنا، علمًا بأن هذا الداء المُفسد للوعى كالجائحة يصيب كل المعمورة وإن تحوَّر من ثقافة لأخرى، وما زلت مؤجلًا البحث فى وظائف هذه النظريات، مفضّلًا التركيز مؤقتًا على الظواهر المرصودة التى تسهل الإيمان بها، وعلى أوجه خلل هذه النظريات.
فى القرن التاسع عشر كان مصير شعوب بلاد بالكامل يتقرر فى عواصم بعيدة لدول غازية، والأمر كان فى يد حفنة من الساسة، لا يعرفون إلا أقل القليل عن الشعوب التى ابتُليت باحتلالهم، كانت بواعثهم متنوعة، ولكن المشترك بينهم تقييم يرى عجز هذه الشعوب عن حكم نفسها بنفسها، ومن ثم لم يكن لرأيها أى أهمية.
استخدمنا كثيرًا جملة “أعطى من لا يملك لمن لا يستحق” لتلخيص قضية فلسطين، والحق يُقال؛ هذه الجملة صالحة لوصف كل أنواع الاستعمار.
ما يهمنى هنا هو “ذاكرة الجرح” الاستعماري، قد تكون التصورات الجماعية عن السياسة سابقة لهذه المرحلة التاريخية، لكنها تحولت إلى جرح مؤلم ومؤثر ومُفسد بسببها، العامة يميلون إلى تصور يرى أن القرارات الحاسمة التى تؤثر على حياتها تُتخذ فى غرف مغلقة، بعيدة عنها، بعد مداولات بين عدد قليل من أولياء الأمر، وربما أصحاب المصلحة، يجمعهم عدم الإحساس بنبض الجماهير وبمشاكلهم، وامتلاك سُلطة شبه مطلقة وقدرات على البطش يسيئون دائمًا استخدامها.
بدايةً، يرى الكثيرون منا أننا ما زلنا نعيش فى مرحلة الاستعمار، وأن القوى الكبرى ما زالت تفكر وتخطط وتمهد للغزو، وفى أحداث ربع القرن الماضى ما يبدو كأنه داعم لهذا التصور. غزو أفغانستان (مرتين) والعراق، غزو أوكرانيا، احتلال الضفة، وهذا التصور يرى أن مشروعات التحول الديمقراطى جزء من مخطط يهدف إلى تقسيم البلاد تمهيدًا لغزوها، أو على الأقل لإخضاعها.
لكن نظرةً هادئة إلى المشهد تؤكد أن مرحلة الاستعمار انتهت أو تكاد، وأن ما تبقَّى من مشروعات استعمارية مجنونة لا يستهدفنا، لا يتسع المجال لكل حيثياتنا، ونكتفى بذكر بعضها. أولاها كلفة عمليات الغزو، فى الأرواح والمُعدات، وكلفة عمليات إعادة البناء وحكم بلاد محتلة، وثانيتها مقرطة سبل المقاومة العنيفة، صناعة المواد المتفجرة والطائرات المُسيّرة وتنظيم عمليات كرّ وفرّ أمر يسير، والحصول على دعم طرف خارجى بات أسهل فى أغلب الأحوال، فالفاعلون الدوليون القادرون على مناصرة الضعيف، والراغبون فى هذا لإفساد خطط الطرف القوى كثيرون، وثالثتها الموازين السكانية، عندما غزَت فرنسا الجزائر كان عدد سكان الدولة الغازية يفوق الثلاثين مليونًا؛ أى عشرة أضعاف سكان الجزائر آنذاك، أتتصورون مثلًا أن إسرائيل - التى عجزت عن دخول السويس سنة 1973 - قادرة على التوغل وعلى البقاء فى الدلتا وفى مناطق كثيفة السكان دون أن تتكبد خسائر قاصمة؟ وحتى فى الأحوال التى يتمتع فيها الغازى بتفوق عددى كاسح، تتحول محاولات الغزو بسهولة إلى كابوس للمعتدي، انظر إلى تجربة موسكو فى أفغانستان وأوكرانيا.
أدرك أن الاستعمار ما زال موجودًا، وأن الشعب الواقع تحت الاحتلال لا ينجح دائمًا فى التحرر، وأن التكنولوجيا تتيح إمكانيات للباطش لم تكن متوافرة قبل عصرنا، لكن يبقى أن مشروعات الهيمنة والاستغلال تطورت ولا تحتاج إلا نادرًا إلى غزو عسكرى قد يولِّد مقاومة.
نعرض سريعًا لمسألة وجود أو عدم وجود خطط تقسيم، لنقل أولًا إنها قطعًا موجودة، وشاهد التاريخ تنفيذ بعضها، ثانيًا لا تستطيع أن تمنع أى أكاديمى يفكر بمنطق جنرالات المقاهى أن يُدلى بدلوه، لكن السؤال الذى يحتاج إلى تدقيق هو: متى يتبنى سياسى مثل هذه الخطط، والرد السهل هو عندما تكون الفائدة أكبر بكثير من الأضرار الواضحة لمثل هذه الخطط، على سبيل المثال عندما يكون مشروع الهيمنة فى حاجة إلى تفتيت وتقسيم الكيانات، أو عندما يكون التقسيم السبيل الوحيدة لإنهاء احتراب.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
