عن الغباء والذكاء فى السياسة- نظريات المؤامرة
بدايةً، أستشهد بسياسى فرنسى سابق، كان يقول: إن وجدت نفسك أمام ظاهرة سياسية أو قرار سياسى لا يمكن تفسيرهما إلا بالمؤامرة أو بغباء أصحاب القرار، فستفضّل، مثل الكثيرين، التفسير بالمؤامرة، لكن التفسير بالغباء هو، فى أغلب الأحوال، الأقرب إلى الحقيقة.
هذا لا يعنى أنه لا توجد مؤامرات، بل يعنى أن الكثيرين منا يتخيل مؤامرات غير موجودة أصلًا إلا فى مخيلتهم. وشعبية التفسير بالمؤامرة لها تبِعات لا يمكن التقليل من أهميتها، فهى تكرّس ثقافة الخوف، بل ثقافة الرعب، وتدعم أسس رؤية للعالم تصور الكون كله، عربًا وأعاجم، على أنه عدو شرير، وتُصورنا كأننا كيان ضحية، طيب وأهبل وعبيط وقليل الحيلة.
يقولون إن الجبن سيد الأخلاق، ومن الواضح أن الخوف قد يكون دافعًا إلى توخى الحرص وتفادى المغامرات المجنونة، لكن الحرص قد يكون خصلة حميدة، وقد يكون عيبًا قاتلًا. المشكلة أن الخوف ليس دائمًا بداية من بدايات الحكمة، الخوف فى أحوال كثيرة السبب الرئيس الدافع لارتكاب المجازر الجماعية، المؤرخون الذين درسوا المجازر الرهيبة - التى ارتكبتها النازية، أو فاعلو الثورة الفرنسية، أو أغلب المجازر التى ارتُكبت فى العصور الوسطي، أثبتوا أهمية الخوف الجماعى كمحرّك لمرتكبى جرائم القتل الجماعي. كل المتورطين تصوروا إما أن الجماعة التى ينتمون إليها تواجه خطرًا وجوديًّا، أو أن هويتهم الجماعية مدنَّسة، وأن تطهيرها يقتضى تصفية مَن يُنسب إليه ظلمًا هذا التدنيس.
والبشِع فى المجازر الجماعية التى ارتكبها النظام النازى هو الأعداد الهائلة للأفراد العاديين الأسوياء الذين ارتكبوها؛ من حاملى شهادات جامعية، حاصلين على تعليم راقٍ، متزوجين وأزواج وآباء وأمهات صالحين، لكنهم صدَّقوا رواية مجنونة مفادها أن الأحداث التى عاشتها ألمانيا بين 1917 و1933 تسببت فيها مؤامرة عالمية تريد إخصاء أو إبادة الشعب الألماني، وأن المجازر الجماعية ضرورة للحماية والانتقام. انهيار الجبهة الداخلية والهزيمة العسكرية، معاهدة فرساي، فقدان ألمانيا أراضي، الثورات الشيوعية، الأزمة الرأسمالية الكبرى فى نهاية العشرينيات، تصوروا أن كل هذا ثمرة تخطيط أقلية جهنمية، وطبعًا كان هذا هراء، لكنهم صدَّقوه، وحصل ما حصل من تدمير شامل للقارة ولألمانيا، ومن إبادة لليهود دفعت مَن عاش منهم إلى ترك أوروبا بلا رجعة، والتوجه إلى فلسطين أو إلى الولايات المتحدة.
باختصار، نظريات المؤامرة قد تدفع مَن يصدقها إلى تجنب المغامرات المجنونة، وقد تتسبب فى كوارث. شخصيًّا، أرى أن ثقافة الخوف آفة يجب القضاء عليها، إن أردنا النهضة الوطنية المستقلة، ونظريات المؤامرة ثمرة ووقود وأحد أسباب إعادة إنتاج ثقافة الخوف.
لكننى أرفض ميل بعض الزملاء المصريين والأجانب إلى قول إن من يصدّقها شرير وغير سويّ وغبيّ، وأرى فى هذا عدم إدراك لجسامة المشكلة، وهى أن ناسًا أسوياء، طيبى المعدِن، أذكياء، أكْفاء فى تخصصهم، مطّلعين على أحوال العالم، يصدقون هذا الكلام «الفاضي» الشديد الخطورة.
يقال إن جاذبية نظريات المؤامرة فى كونها شرحًا مريحًا لفشل يعفى من المسئولية، ويغنى عن المراجعة المؤلمة، ويؤكد المعدِن الطيب الأصيل للفاشل والمهزوم، والطابع الشرير المخادع للعدو العاجز عن الانتصار علينا فى «مباراة شريفة ومكشوفة»، لذا يعمل فى السر وفى الظلام، ويلجأ إلى وسائل قذرة. وفى هذا التفسير لشعبية هذه النظريات قدر كبير من الصحة، لكن يبقى أنه لا «يغطى كل الحالات»، الكثيرون يلجؤون إلى نظريات المؤامرة لتفسير أحداث لا تخص البلاد ولا تؤثر عليها بالسلب، وقد يستفيد منها الوطن، نعم هذا التفسير يفيد فى إعادة تأكيد شر الكبار، لكن يبقى أن اللجوء إليه غير مفهوم.
فى المقالات التالية، سأحاول ذكر الظواهر الموضوعية التى تدعو إلى تصديق الكلام «الفاضي». على سبيل المثال، هناك فعلًا رجال ظل يملكون قدرة هائلة على التأثير على الأحداث، وسأسعى إلى بيان التأثيرات السلبية الجسيمة لظاهرة نظريات المؤامرات.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
