أسعار الغذاء المرتفعة.. 4 أعوام مؤلمة تستنزف قوى شعوب العالم

Ad

تحتفى عدة دول حول العالم بتراجع وتيرة التضخم عقب فترة عصيبة طويلة شهدت لجوء البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة لامتصاص السيولة من الأسواق، لكن هذا الاحتفال بالاستراحة من التضخم لا يعنى شيئا لملايين الفقراء الذين صدمتهم أسعار الغذاء المرتفعة واستنزفت قواهم منذ عام 2021 حتى الآن.

ينفق الفقراء فى الدول النامية %70 من دخولهم على الغذاء، وهى ميزانية غير مرنة ولا يمكن التعامل مع تعقيداتها فى حال ارتفاع الأسعار، ما يتركهم بلا قدرة على استيعاب التطورات ويدفعهم إلى المزيد من الفقر والانغماس فى دوائر الجوع.

ومع ذلك، فإن حرارة فواتير الغذاء، أضحت محسوسة بقسوة أيضا لدى الطبقات المتوسطة، حتى فى الدول المتقدمة، إذ تصدر اشتعال أسعار المواد الغذائية عناوين الأخبار فى جميع أنحاء العالم هذا العام، بداية من البيض فى الولايات المتحدة إلى الخضروات فى الهند، بحسب مؤسسة Carbon Brief البريطانية.

ووفقا لبيانات مؤشر منظمة الأغذية والزراعة، فإن أسعار الغذاء التى ظلت تحت مستوى 100 نقطة لمدة 6 أعوام متتالية منذ عام 2015 حتى 2020، شهدت قفزة كبيرة إلى 125.8 نقطة فى 2021 (توابع جائحة كورونا) ثم إلى 144.7 نقطة فى 2022 (الحرب الروسية الأوكرانية)، ثم هدأت قليلا إلى 124.7 نقطة فى 2023، وتراجعت إلى 117.7 نقطة فى يناير 2024، قبل أن تعاود الصعود مجددا منذ مارس الماضى لتصل إلى ما فوق 120 نقطة فى يوليو.

وهذه ليست مجرد أرقام، بل أعوام طويلة مرت على مجتمعات هشة تكافح بمرارة على أمل الوصول يوما ما إلى نقطة راحة، أو محطة دعم، لكن ما يحدث هو العكس تماما.

فى بعض الدول النامية، اضطرت الحكومات إلى تنفيذ قرارات صعبة بمشورة مؤسسات التمويل الدولية، شملت خفض قيمة أسعار الصرف (الأمر الذى يفاقم من ارتفاع أسعار الغذاء المستوردة)، وخفض الدعم عن الوقود (وهو أمر يساهم بدوره فى زيادة تكاليف نقل الغذاء وبالتالى سعره)، وغيرها من “الإصلاحات” التى صعبت من مهمة البقاء على قيد الحياة لملايين الفقراء.

فواتير عنيدة .. لماذا تفشل جهود كبح الزيادات؟

تعد الفجوة بين التضخم المتراجع وانعكاسه على أسعار المواد الغذائية، محيرة ومحبطة بالنسبة للعديد من الناس، خاصة لأن رفع أسعار الفائدة لا يبدو أنه يؤثر على أسعار المواد الغذائية على الإطلاق.

ففى فترات التضخم المرتفع، ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة للحد من زيادات الأسعار، أو فى الحالة المثالية خفضها، لكن أسعار المواد الغذائية لا تستجيب لسياسات أسعار الفائدة بقدر ما تستجيب لها عوامل أخرى، ويأتى ذلك لأن الطلب على المواد الغذائية “ثابت نسبيا”، إذ لا يمكننا تأجيل شراء المواد الغذائية كما قد نؤجل شراء جهاز كمبيوتر أو سيارة جديدة.

عناد أسعار المواد الغذائية، دفع المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأمريكية، ونائبة الرئيس الحالية كامالا هاريس إلى اقتراح مثير للجدل عبر فرض حدود سعرية لمواد البقالة فى محاولة لمنع ما قالت إنه “احتكار” من قبل سلاسل البقالة الكبيرة.

لكن تقرير لمؤسسة Carbon Brief البريطانية، أشار إلى أنه لا يمكن لعامل واحد بمفرده أن يفسر ارتفاع أسعار الغذاءـ إذ يتحكم فى ذلك الصراع الجيوسياسي، والتغيرات المناخية، وارتفاع تكاليف المدخلات، وتنامى الطلب، ولكل عامل منها دور تلعبه.

ووفقا لتقرير توقعات الغذاء الأخير لمنظمة “فاو”، فإنه رغم التوقعات الإيجابية، فإن أنظمة إنتاج الغذاء العالمية تظل عرضة للصدمات الناجمة عن التغيرات المناخية، والتوترات الجيوسياسية، والتطورات فى الأسواق الأخرى.

وفى هذا السياق، سألت مؤسسة Carbon Brief مجموعة من العلماء والخبراء من مختلف أنحاء العالم عن رأيهم فى العوامل الأكثر تأثيرا والتى تؤدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا.

وقالت إليزابيث روبنسون، مديرة معهد جرانثام لأبحاث تغير المناخ والبيئة بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية إنه فى عام 2008، كان نقص الاستثمار فى قطاع الزراعة، والطلب المتزايد على الوقود الحيوي، وتغيير الأنظمة الغذائية وانخفاض مخزونات الغذاء العالمية يفرض ضغوطًا تصاعدية طويلة الأجل على أسعار المواد الغذائية.

وأوضحت روبنسون أن أزمة الغذاء فى عام 2008 كانت ناجمة عن حصاد القمح الضعيف فى أستراليا، وهى دولة تعتبر سلة للخبز، وأضافت أن الارتفاع الشديد فى أسعار القمح والأرز كان مدفوعًا بمزيج من القيود المفروضة على التصدير، والشراء بدافع التحوط، وارتفاع المضاربة.

وبحسب روبنسون، أدى تغير المناخ، فى الآونة الأخيرة وجائحة كوفيد-19، والغزو الروسى لأوكرانيا إلى تعطيل إنتاج الغذاء وسلاسل إمدادات الغذاء المتكاملة عالميًا، مما فرض ضغوطًا تصاعدية على أسعار المواد الغذائية.

وقالت روبنسون إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية غالبًا ما يكون بسبب مزيج من العوامل المناخية وغير المناخية.

وأشارت روبنسون إلى أنه فى وقت سابق من هذا العام، ارتفعت أسعار الكاكاو بسبب التغيرات المناخية، المرتبطة جزئياً بظاهرة النينيو، مما أدى إلى مواسم حصاد رديئة فى غرب أفريقيا، إلى جانب الضغوط الأطول أمداً، مثل الأمراض النباتية وشيخوخة أشجار الكاكاو، والضغوط القصيرة الأجل، وخاصة المضاربة، مما أدى إلى تفاقم الوضع بشكل أكبر.

ونظراً لتغير المناخ، خاصة ارتفاع درجات الحرارة وهطول الأمطار، فمن المرجح أن تصبح ارتفاعات أسعار المواد الغذائية سمة مشتركة متزايدة فى الأنظمة الغذائية العالمية إذ يمكن تضخيم الصدمات فى جزء واحد من العالم بسهولة ونقلها إلى جميع أنحاء العالم.

الأطعمة الصحية.. حلم يبتعد حتى فى الدول المتقدمة!

كشف بحث حديث فى نيوزيلندا (وهى واحدة من دول العالم المتقدم التى تتمتع باقتصاد قوي) أن أسعار السلع الغذائية، التى ارتفعت بشكل كبير على مدار الأعوام الماضية، تجعل من الصعب على الأسر الفقيرة إطعام أطفالها بشكل صحي.

وبحسب تقرير نشره موقع rural news، قالت الباحثة الرئيسية، الدكتورة جوانا ستروم من كلية الصحة السكانية بجامعة أوكلاند: “ التغذية مهمة للأطفال لأنهم فى طور النمو وما نأكله يؤثر ليس فقط على صحتنا الجسدية بل على صحتنا العقلية”.

وأضافت : “إذا كان الأطفال جائعين ولا يأكلون جيدًا، فإن ذلك يؤثر على تعلمهم أيضًا”.

وتابعت: “ولكن إذا كان الأطفال يتناولون أطعمة معالجة بشكل مفرط وعالية الدهون والسكريات ويعانون من زيادة الوزن، مع ضعف صحة الأسنان، فإنهم لا يستطيعون تحريك أجسادهم جيدًا وهذا يؤثر على كيفية تفاعلهم مع الأطفال الآخرين”.

وفقًا لوزارة الصحة فى نيوزيلندا، فإن ما يقرب من ثلث الأطفال فى البلاد مصنفون على أنهم يعانون من زيادة الوزن أو السمنة، كما أن %5.4 فقط من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عامين و14 عامًا يتناولون العدد الموصى به من حصص الخضروات يوميًا.

وفى بحثها ، وجدت ستروم أن أسعار سلة الغذاء ارتفعت بنسبة %35 خلال الفترة من 2018 إلى 2023.

وكانت أكبر الزيادات السنوية فى أسعار المواد الغذائية بنسبة %11.7 فى عام 2022 و%13.6 فى عام 2023.

وقامت ستروم أيضًا بحساب التكاليف لعائلة نموذجية كان أطفالها يكبرون خلال تلك الفترة، إذ أدت احتياجاتهم الغذائية الإضافية إلى تفاقم الزيادات فى الأسعار بحيث ارتفعت تكاليف السلع الغذائية بأكثر من %50 من 10420 دولارًا فى عام 2018 إلى 16083 دولارًا فى عام 2023.

وركزت ستروم على الأطعمة الأقل تكلفة ضمن مؤشر أسعار الغذاء الذى صممته هيئة الإحصاء النيوزيلندية. كما أنشأت سلال طعام صحية تلبى الاحتياجات الغذائية للأطفال، وفقًا لإرشادات وزارة الصحة، لعائلة مكونة من أربعة أفراد وأطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و14 عامًا.

وقالت ستروم: “بشكل عام، كانت هناك زيادة سنوية فى هذه الأطعمة الصحية منخفضة التكلفة، على مدى السنوات الست الماضية، وهى أعلى من مؤشر أسعار الغذاء بشكل عام، وهذا أمر مثير للقلق”.

كانت ارتفاعات أسعار المواد الغذائية خلال السنوات الخمس الماضية أعلى بكثير بنسبة %6.6 سنويًا مقارنة بالعقد من 2007 إلى 2017، وفقا للتقرير.

وبحسب التقرير، فإن هذا البحث يفيد السياسات التى تستهدف نظام الغذاء بأكمله، بما فى ذلك الحوافز للمزارعين، والحلول المحلية مثل الوجبات المدرسية المجانية.

القلقاس بديلاً للأرز.. تجربة نيجيريا الصعبة في البحث عن الأرخص

أدت الإصلاحات الاقتصادية للرئيس النيجيرى بولا تينوبو - بما فى ذلك إنهاء إعانات الوقود وتوحيد أسعار الصرف المتعددة - إلى ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له فى 28 عامًا.

وفى يونيو الماضى، قفز معدل التضخم إلى %34.19، مما تسبب فى صعوبات لكثير من المواطنين، بحسب تقرير لصحيفة Punch النيجيرية.

وذكرت الصحيفة أن الوضع تفاقم مع ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة %40.87، بسبب انعدام الأمن فى المناطق الزراعية فى البلاد. ونتيجة لذلك، يكافح العديد من الناس لتحمل تكاليف المواد الغذائية الأساسية.

وبحسب تقرير نشرته هيئة الإذاعة الفيدرالية النيجيرية، فإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية تحول إلى تحدٍ رئيسى فى البلاد، حيث يكافح العديد من المواطنين لتوفير وجبتين فى اليوم.

وأوضح التقرير أن ارتفاع الأسعار يؤدى إلى زيادة معدل الفقر، وارتفاع تكاليف المعيشة، وبما أن الغذاء ضرورة أساسية، فإن الاضطراب الناجم عن ارتفاع تضخم الغذاء يزيد من الضغوط على الأجور المنخفضة.

وذكر التقرير أن القوة الشرائية وظروف المعيشة للأسر آخذة فى التدهور، مما أدى إلى انخفاض القدرة المالية للمواطنين سواء كانوا يعيشون فى المناطق الريفية أو الحضرية فيما يتعلق بتوفير الغذاء.

وبحسب تقرير حالة الأمن الغذائى والتغذية فى العالم لسنة 2024 الصادر عن الأمم المتحدة، فإن حوالى 172 مليون نيجيرى أو %78.7 من سكان البلاد غير قادرين على تحمل تكاليف نظام غذائى صحى فى عام 2022.

ووفقًا للتقرير الأممى، فإنه اعتبارًا من عام 2022، سيحتاج الشخص النيجيرى الذى يستطيع تحمل تكاليف نظام غذائى صحى إلى حوالى 3.83 دولارًا فى اليوم ليكون قادرًا على الوفاء باحتياجاته من المواد الغذائية.

وبحسب الصحيفة، فقد دفع هذا التحدى العديد من النيجيريين إلى تغيير أذواقهم، والتوجه نحو الأطعمة المحلية الأرخص. فمثلا أصبح القلقاس بديلاً مفضلاً للأرز.

وقالت الصحيفة إن أزمة التضخم أدت إلى التخلى عن الخضروات باهظة الثمن، مثل الطماطم التى تضاعفت أسعارها ثلاث مرات فى السنوات الأخيرة، مما دفع الكثيرين إلى البحث عن بدائل.

وفى حديثها مع مراسل الصحيفة، قالت أوجونى آدامز، وهى أم لأربعة أطفال، إنها لجأت إلى تناول الذرة والفاصوليا كوجبات منتظمة لعائلتها لأن تكلفة الأرز والبطاطس وغيرها من المواد الغذائية الأساسية أصبحت باهظة الثمن.

وتوقعت الأمم المتحدة مؤخرًا أن يعانى حوالى 82 مليون شخص من الجوع فى نيجيريا بحلول عام 2030.

وأظهر تقرير صادر عن المكتب الوطنى للإحصاء أن أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية ارتفعت بشكل كبير، إذ قفزت بنسبة تزيد عن %250 خلال عام واحد.

وأوضح التقرير أيضًا أن أسعار المواد الغذائية الأساسية ، مثل الفاصوليا والبطاطس والموز والطماطم، ارتفعت بنسبة تزيد عن %250 فى 2023.

وأظهر تحليل أن قطاع الزراعة النيجيرى شهد انخفاضًا فى الإنتاجية من 2.1 % فى عام 2021 إلى %1.9 و%1.1 خلال عامى 2022 و2023 على التوالي. كما انخفض أكثر إلى 0.2 % فى الربع الأول من 2024. ويُعزى هذا الاتجاه إلى ضعف القطاع فى مواجهة التغيرات المناخية والتحديات التى تفرضها البنية التحتية الريفية.

ويشير الخبراء إلى أن التحول نحو الخضروات الأقل تكلفة يسلط الضوء على براعة المستهلكين النيجيريين وقدرتهم على التكيف.

وقال الخبير الاقتصادى فى Lotus Beta Analytics، شادراش إسرائيل: “فى حين تعكس هذه التغييرات فى العادات الغذائية مرونة النيجيريين، فإنها تؤكد أيضًا على النضال المستمر ضد تضخم أسعار الغذاء”.

وأضاف “هناك حاجة ملحة إلى حلول مستدامة لمعالجة الأسباب الجذرية لتضخم أسعار الغذاء... ومن الأهمية بمكان التركيز على دعم المزارعين المحليين والاستثمار فى البنية التحتية الزراعية”.

قرض من البنك الدولى لتعزيز «زخم الإصلاح»

فى يونيو الماضي، وبعد مرور قرابة عام على الإصلاح، اضطرت نيجيريا للاقتراض من البنك الدولى لدعم الإصلاحات الاقتصادية التى ساهمت فى أسوأ أزمة غلاء معيشة منذ سنوات عديدة فى أكبر دولة أفريقية من حيث عدد السكان.

وقد وافق البنك الدولى على قرض بقيمة 2.25 مليار دولار لنيجيريا بغية تعزيز الإيرادات.

وقال البنك إن الجزء الأكبر من القرض (1.5 مليار دولار) سيساعد فى حماية الملايين الذين واجهوا فقرًا متزايدًا، وسيذهب المبلغ المتبقى (750 مليون دولار) لدعم الإصلاحات الضريبية والإيرادات.

وحسب محمد مالك فال، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية فى نيجيريا، فإن حوالى 800 مليون دولار ستذهب إلى برنامج التحويلات النقدية الذى سيمكن عدد الأسر المستفيدة من الدعم الاجتماعى من الزيادة من 3 ملايين إلى 15 مليونًا.

وقال إن الحكومة النيجيرية وضعت حوالى 450 مليون دولار فى مخطط للحماية الاجتماعية وللحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعى فى الأمد البعيد.

ولكن الأمم المتحدة نصحت نيجيريا بتطوير برنامج استثمار مستدام لا يعتمد على المساعدات الأجنبية كجزء من خطتها للتخفيف من حدة الفقر.

وتعانى نيجيريا بالفعل من عبء ديون مرتفع حد من مقدار الأموال التى يمكن للحكومة إنفاقها من أرباحها. وشهد اعتمادها على الاقتراض للبنية التحتية العامة وبرامج الرعاية الاجتماعية ارتفاع الدين العام بنحو %1000 فى العقد الماضي.