على مدى السنوات الثلاث الماضية من 2020 إلى 2023، ارتفعت معدلات الفقر فى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، ليسقط أكثر من 165 مليون شخص جدد فى هوة الفقر، وفقا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وفى مقابل هذا العدد الضخم من الفقراء، مالت تلك الدول إلى تقليص برامج الحماية الاجتماعية، تحت ضغوط من ديون أصقلت كاهلها، وأضحت تشكل رقما صعبا من إجمالى إنفاقها.
وربط التقرير بشكل واضح بين ارتفاع مستويات الديون، وعدم كفاية الإنفاق الاجتماعي، والزيادة المثيرة للقلق فى معدلات الفقر.
ومع ذلك، لا تبدو نفقات الحماية الاجتماعية فى الموازنات هى البند الأولى بالتقليص بالنظر إلى أنها تمثل فى حد ذاتها استثمارا مضمون العائد للمستقبل، وتنعكس بشكل واضح على النمو الاقتصادى الشامل.
فبحسب دراسة نشرتها منظمة العمل الدولية، بالتعاون مع الاتحاد الدولى لنقابات العمال ومؤسسات أخرى، يؤدى استثمار %1 من الناتج المحلى الإجمالى فى سياسات الحماية الاجتماعية إلى تأثير مضاعف على الناتج المحلى الإجمالى يتراوح بين 0.7 و1.9، وفقا لدراسات حالة تم إجرائها فى 8 دول هى بنغلاديش، وكولومبيا، وكوستاريكا، وجورجيا، وغانا، والهند، ورواندا، وصربيا.
وحسب الدراسة التى نشرت عام 2021، فإن فالحماية ليست مجرد استثمار فى البشر، بل هى تؤدى أيضًا إلى الاستثمار فى الاقتصاد الأوسع؛ بحيث يمكن أن يؤدى إلى دورة اقتصادية حميدة تزيد من فرص العمل، والإنتاجية والإيرادات الضريبية والنمو الشامل خاصة فى البلدان النامية.
ويظهر التحليل أيضا أن استثمارات الحماية الاجتماعية تزيد من إجمالى إمدادات العمالة، وتلعب دورا مها فى مساعدة الأسر التى تعانى من نقص السيولة لمواجهة الصدمات السلبية، بما يجعلها قادرة على التكيف دون استراتيجيات ضارة مثل بيع الأصول وسحب الأطفال من المدارس.
ويعنى هذا أن جميع البلدان لديها عائد من الاستثمار، وبعضها يحقق مكاسب اقتصادية، إذ أن المفيد للناس هو مفيد للاقتصاد، خاصة الاقتصادات التى تتمتع بتكامل قوى بين عملية الإنتاج والاقتصاد المحلى ومستوى أقل من الناتج المحلى الإجمالى تستفيد أكثر من غيرها من الاستثمارات فى الحماية الاجتماعية (مثل بنجلاديش والهند ورواندا).
ولذلك، يبدو أن الاستثمارات فى الحماية الاجتماعية لها تأثير أكبر على النمو الاقتصادى فى البلدان التى ينخفض فيها نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي، والبلدان ذات مستويات الدخل الأعلى لها أيضًا آثار مفيدة ولكنها أقل حجمًا.
وتشهد البلدان ذات مستوى الدخل الأعلى والانفتاح الكبير على التجارة الدولية زيادة فى الاستهلاك المحلى بسبب زيادة التحويلات النقدية إلى الأسر لا تترجم بالكامل إلى زيادة فى الإنتاج المحلي، مما يؤدى إلى ارتفاع الواردات.
ووفق الدراسة، أصبحت برامج الحماية الاجتماعية منتشرة بشكل متزايد فى البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، ولكل منها خصائصها المميزة لتتناسب مع البيئات التى تعمل فيها.
ويمكن أن يكون لبرامج الحماية الاجتماعية آثار إيجابية على النمو على المستوى المحلي. وتنبع هذه الآثار من زيادة الاستهلاك المحلى وتحسين نتائج سوق العمل.
وعندما ينفق المستفيدون تحويلاتهم النقدية، فإن ذلك يحفز الطلب المحلي، مما يؤدى إلى النمو الاقتصادي، بجانب تحسن سوق العمل وانتعاشالنمو بالتبعية.
الدعم النقدى أم العيني؟
من جهة أخرى، تتعدد أوجه الدعم لكن الأسلوب الأمثل من بينها يظل سؤالا معقدا يصعب الإجاية عليه بسهولة، خاصة فيما يتعلق بالمفالة بين الدعم النقدى والعيني.
وبحسب مؤسسة بروكينجز البحثية، يتفوق الدعم العينى على نظيره النقدى على صعيد تقديم خدمات مثل الوجبات المدرسية، وتوزيع المواد الغذائية، والرعاية الصحية.
ويمكن توجيه الدعم العينى بشكل أكبر نحو احتياجات محددة، مثل التغذية أو التعليم، مما يضمن استخدام المساعدات فى الغرض المقصود.
وبوسع الدعم النقدى أيضادعم أهداف السياسة الأخرى، مثل الزراعة، من خلال ضمان المشتريات أو إدارة تقلبات أسعار المواد الغذائية من خلال الاحتياطيات.
ويُفضل تقديم المساعدة العينية خلال أوقات التضخم أو فى مناطق معينة، حيث قد لا يحتفظ النقد بقيمته.
ومقابل هذا، يرى المنتقدون أن الدعم العينى يفتقر إلى المرونة، لأنه لا يسمح للمستفيدين باتخاذ خيارات بناءً على احتياجاتهم وتفضيلاتهم الفردية، بحسب تقرير على مدونة البنك الدولي.
وبجانب هذا، يتم تكبد تكاليف أعلى فى حالة الدعم العينى مقارنة بالتحويلات النقدية، ويبرز كذلك خطر انعدام كفاءة التوزيع.
وهناك قلق من أن الدعم العينى يمكن أن يشوه الأسواق، على سبيل المثال، من خلال التأثير على الأسعار أو خلق تبعات تمنع تطور السوق.
وفى نهاية المطاف، فإن تقييم ما إذا كان الدعم العينى يمثل إهدارًا للموارد يعتمد على السياق والأهداف المحددة لبرنامج الدعم، وإذا كان الهدف هو ضمان وصول المساعدات إلى قطاعات معينة أو توفير الاستقرار أثناء الأزمات الاقتصادية، فمن الممكن تبرير الدعم العيني.
ومع ذلك، إذا كان الهدف هو تعظيم الاختيار والكفاءة، فقد يكون من المفضل التحويلات النقدية، والمفتاح هو تحقيق التوازن بين فوائد المساعدة المستهدفة والحاجة إلى المرونة والكفاءة فى استخدام الموارد العامة.
وتصل المساعدة العينية إلى عدد أكبر من الأشخاص فى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ومقابل هذا تحظى التحويلات النقدية بالاعتراف لمرونتها وفوائدها فى التمكين.
فى بعض الحالات، قد يفضل الأشخاص المساعدة العينية عندما تكون أسعار المواد الغذائية مرتفعة، أو إذا كانت البرامج النقدية القائمة غير فعالة.
ويعتمد الاختيار بين التحويلات النقدية والعينية على طبيعة الأزمة، وأهداف البرنامج، وملف السكان المستهدفين، وتكاليف التنفيذ، وقدرة السوق المحلية.
وقد تبين أن التحويلات النقدية قد وفرت حماية إلى ما يصل إلى 800 مليون شخص تقريبًا من التضخم وغطت 1.3 مليار فرد خلال جائحة كوفيد-19.
ويجب أن يعتمد الاختيار بين الدعم العينى والنقدى على فهم شامل للسياق المحلى واحتياجات السكان الأكثر احتياجا، ولكلتا الطريقتين مزاياهما ويمكن استخدامهما بفعالية فى ظل ظروف مختلفة للوصول إلى شرائح المجتمع الأكثر احتياجا.
التكنولوجيا تقدم حلولها
وفى السياق ذاته، أظهرت العديد من الأمثلة أن الاستثمار فى التحويلات النقدية الرقمية يمكن أن يساعد الحكومات على توسيع نطاق المساعدة الاجتماعية بسرعة وحجم غير مسبوقين، بحسب تقرير لموقع بروكينجز.
وعلى سبيل المثال، تمكنت حكومة توجو فى بداية جائحة كورونا، فى غضون 10 أيام فقط، من بناء وإطلاق NOVISSI، وهى منصة رقمية للدفع الجماعى ونموذج للتحويلات النقدية المباشرة، مما يسمح للمستفيدين بالتسجيل واستلام المدفوعات فى غضون 120 ثانية عبر الهواتف المحمولة الأساسية - بدون الإنترنت .
وخلال مرحلتها الأولى، استخدمت NOVISSI نهج الاستهداف على أساس المهنة من خلال الاستفادة من قاعدة بيانات هوية الناخبين التى تم تحديثها مؤخرًا، ولزيادة تحسين استهداف الأشخاص الأكثر ضعفا فى مرحلته الثانية، استفاد البرنامج من صور الأقمار الصناعية والبيانات الوصفية للهواتف المحمولة والتعلم الآلى لتحديد الأفراد الأكثر ضعفا فى أفقر 200 منطقة، ورغم عدم وجود سجل اجتماعى وطني، تمكنت توجو من توزيع 34 مليون دولار على المرحلتين، على ربع سكانها البالغين.
حتى أن البرنامج الذى تقوده الحكومة أنتج نتائج بحثية جديدة، وقد تبين أن النهج الرائد فى استهداف الذكاء الاصطناعي، والذى تم تطويره بالتعاون مع مركز العمل العالمى الفعال والابتكارات من أجل مكافحة الفقر، وتم اختباره بالشراكة مع منظمة جيف دايركتلى غير الربحية، ليس أكثر دقة فحسب، بل أكثر شمولا أيضا مقارنة بأساليب الاستهداف البديلة.
وفى بنجلاديش، أظهر برنامج نقدى تم إطلاقه لمواجهة الفيضانات السنوية ابتكارًا إضافيًا - دفع الأموال رقميًا للأفراد المحتاجين قبل وقوع الكارثة، وفى عام 2020، شهدت البلاد ثانى أعلى فيضانات مسجلة منذ أكثر من 30 عامًا، وباستخدام مزيج من التحذيرات المبكرة من الفيضانات والتحويلات المالية عبر الهاتف المحمول، زود برنامج الأغذية العالمى التابع للأمم المتحدة الأسر بمبلغ 53 دولارًا قبل ذروة الفيضانات، وكانت الاستجابة أسرع مما كانت عليه خلال الفيضانات الكبرى الأخيرة فى عامى 2017 و2019 عندما وصل الدعم بعد حوالى 100 يوم من ذروة الفيضانات.
والأمر الأكثر تبشيرا هو أن البرنامج أظهر أن الأسر التى تلقت أموالا نقدية قبل الأزمة تتمتع بأمن غذائى أفضل فى مرحلة الطفولة، وكانت أكثر عرضة للإخلاء، وتحمل ديون أقل.
وكانت النتائج مقنعة للغاية لدرجة أن الوكالات الحكومية تتطلع الآن إلى توسيع نطاق هذا الأمر وربما الجمع بين هذا الابتكار والتقنيات الجديدة التى تم تنفيذها فى توجو.
