تحت تأثير الإحباط الذى تشعر به إزاء النهج الأوروبى فى فرض سياسات البيئة والرقمنة والاستثمار، تزعمت الهند الميول الكامنة لدى الاقتصادات الناشئة والثرية فى رفض الإملاءات المستقبلية بميادين التجارة بما ينبئ بتزايد خطر نشوب حروب تجارية بين أوروبا والجنوب العالمى.
فخلال المؤتمر الوزارى الثالث عشر لمنظمة التجارة العالمية، الذى عقد فى أبو ظبى فى مارس المنقضى حدث شيء غير عادى، إذ وقفت الصين فى نفس الجانب مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى فيما يتعلق بالقضايا التجارية، بحسب تقرير نشره المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية.
وذكر التقرير أن الموقف الصينى لا يشير إلى تخفيف التوترات بين الاقتصادات الغربية وبكين، إذ قام المفاوضون الأمريكيون والأوروبيون والصينيون بتوحيد قواهم لمواجهة خصم مشترك، ألا وهو الهند.
عرقلة المفاوضات الرئيسية
وبحسب التقرير، فإنه خلال القمة، قام الجانب الهندى بعرقلة أغلب المفاوضات الرئيسية بشأن إصلاح إعانات دعم مصائد الأسماك، والتعريفات الجمركية على الخدمات الرقمية، وإبرام اتفاق لتعزيز الاستثمار الأجنبى المباشر فى الاقتصادات النامية.
ووفقا للتقرير، يبدو أن التفسير الذى قدمته الهند لرفضها كان بسيطا، فنيودلهى لا تريد أن ترى قضايا غير تجارية، مثل مكافحة الصيد الجائر وتسهيل تدفقات الاستثمار العالمية، تظهر فى المفاوضات التجارية متعددة الأطراف.
وبحسب التقرير، فإن التنقيب تحت سطح نقاط الحوار الرسمية فى الهند يرسم صورة مثيرة للقلق بالنسبة لعلاقات أوروبا مع الاقتصادات الناشئة، إذ إن تصميم نيودلهى على الدفاع عن مصالحها الخاصة خلال القمة يوضح الاستياء العالمى المتزايد تجاه السياسات التجارية للاتحاد الأوروبى.
وربما تحذو اقتصادات نامية أخرى، محبطة أيضا إزاء النهج الأوروبى، حذو الهند قريبا، مما يزيد من خطر نشوب حروب تجارية بين أوروبا والجنوب العالمى، وفقا للتقرير.
تدابير التجارة الخضراء
وأشار التقرير إلى أن أول اتفاق رفضته الهند يتلخص فى إصلاح إعانات دعم مصائد الأسماك بهدف منع الصيد الجائر، إذ تنبع معارضة الهند للاتفاق من المصالح المحلية.
وأوضح التقرير أن عرقلة نيودلهى للاتفاق لا تتعلق بدعم قطاع صيد الأسماك المحلى، فلربما كان الموقف الهندى يعكس عدم الرضا إزاء تبنى الاتحاد الأوروبى مؤخراً لتدابير التجارة الخضراء، مثل التعريفات الجمركية على الواردات كثيفة الكربون وقواعد التجارة لمنع إزالة الغابات.
وذكر التقرير أن الهند ليست الاقتصاد الناشئ الوحيد الذى يشعر بالقلق إزاء استخدام الضرائب على الكربون وغيرها من التدابير التجارية لمكافحة تغير المناخ، وفقاً للعديد من الاقتصادات النامية، فإن الاتحاد الأوروبى يتبنى التعريفات الحمائية تحت ستار بيئى.
وفى أبو ظبى، بعث المفاوضون الهنود برسالة واضحة وهى أنه فى المستقبل المنظور، سوف تعارض الهند تبنى تدابير تجارية متعددة الأطراف لحماية البيئة. وبالنسبة لنيودلهى، فإن هذه القواعد ليست سوى تحيز وتمييز وعدم عدالة، لأن التجارة والبيئة قضيتان منفصلتان. وبعيداً عن الأثر البيئى السلبى، فإن الموقف الهندى يسبب مشاكل للاتحاد الأوروبى، بالنظر إلى أن تدابير التجارة الخضراء تشكل جزءاً أساسياً من أدوات بروكسل المتنامية لمكافحة تغير المناخ، فمن غير الممكن أن تتزايد التوترات مع الاقتصادات الناشئة بشأن قواعد التجارة الخضراء فى السنوات المقبلة، وفقا للتقرير.
وفيما يتعلق بالخدمات الرقمية، يحمل موقف الهند فى مؤتمر منظمة التجارة العالمية حقيقة ثانية غير مريحة للأوروبيين، فالخدمات الرقمية من المتوقع أن تصبح ساحة معركة تجارية جديدة فى السنوات المقبلة، ومن ثم فليس من المستغرب أن تدور الخلافات التجارية حول الصادرات غير الملموسة.
الخدمات الرقمية
وأشار التقرير إلى أن الخدمات الرقمية تشكل نحو %15 من الاقتصاد العالمى، وهى حصة يمكن أن ترتفع إلى حوالى الثلث بحلول عام 2030، وبحسب التقرير، فإنه إذا أرادت الهند أو غيرها من الاقتصادات الناشئة الانتقام، من تدابير التجارة الخضراء التى يفرضها الاتحاد الأوروبى، فإن هناك خطر بإخراج التجارة الرقمية عن مسارها، بالنظر إلى أن أوروبا هى أكبر مصدر للخدمات الرقمية فى العالم.
وفى مواجهة ردود الفعل العنيفة بشأن قواعد التجارة الخضراء والخوف من ظهور حروب تجارية جديدة على الخدمات الرقمية، قد يميل الاتحاد الأوروبى إلى اتباع استراتيجية التعامل مع الاقتصادات الناشئة لتهدئة التوترات ومع ذلك، وفقا للتقرير، فإن موقف الهند فى أبوظبى يحمل رسالة تحذيرية أخيرة للأوروبيين.
كذلك رفضت نيودلهى اتفاق عالمى يهدف إلى تعزيز تدفقات الاستثمار المباشر، وقد تكون المكاسب العالمية الناجمة عن هذه الصفقة هائلة، فلربما تصل إلى 1.7 تريليون دولار (بما يعادل حجم الاقتصاد الأسترالى أو الكورى الجنوبي)، وقد تمت الموافقة على الاتفاقية من قبل 125 عضوًا فى منظمة التجارة العالمية، وستفيد الاقتصادات النامية، التى عادة ما تعانى من بيئات أعمال أكثر تحديًا من الاقتصادات المتقدمة، ومع ذلك، بحسب التقرير، اختارت الهند معارضة الصفقة، بحجة أنها ليست قضية تجارية.
اتفاقيات الاستثمار
وأوضح التقرير أن موقف نيودلهى بشأن اتفاق الاستثمار يسلط الضوء على درس ثالث لأوروبا، فالاقتصادات النامية متشرذمة على نحو متزايد بشأن القضايا التجارية، وبحسب التقرير، فإن هذا أمر جديد، فحتى سنوات قليلة، كانت المفاوضات فى منظمة التجارة العالمية تضع الاقتصادات المتقدمة فى مواجهة الاقتصادات النامية على نطاق واسع، ولم يعد هذا الإطار قابل للتطبيق، إذ أصبحت الأسواق الناشئة على استعداد متزايد للدفاع عن مصالحها الخاصة.
وبالنسبة للاتحاد الأوروبى، فإن هذا التطور يعنى أن المحادثات الغامضة حول التعامل مع الجنوب العالمى لن تكون كافية لتهدئة التوترات التجارية.
وخلص التقرير إلى أن الاستراتيجية التجارية التى ينتهجها الاتحاد الأوروبى فى التعامل مع الاقتصادات الناشئة تحتاج إلى أن تصبح أكثر تفصيلاً وأكثر خصوصية لكل بلد مما هى عليه حاليا، لأن قبول اتفاق ما من اقتصاد واحد لا يضمن موافقة الآخرين فى البيئات متعددة الأطراف.
وبحسب التقرير، فإن موقف الهند المتشدد فى منظمة التجارة العالمية يشير إلى أن التوترات التجارية بين أوروبا والاقتصادات الناشئة ستتصاعد فى السنوات المقبلة، بالنظر إلى أن موقف نيودلهى المتشدد فى أبو ظبى مجرد مقدمة لمعارك تجارية تلوح فى الأفق.
