في حقبة جيوسياسية مضطربة.. العالم يتحفز ضد الاستثمار الأجنبي «المخيف»

Ad

يمثل الاستثمار الأجنبى المباشر الميدان الأبرز للتنافس الدولى والإقليمى بين الاقتصادات المختلفة، إذ أن الاستحواذ على حصة جيدة منه، يقدم مؤشرات عملية على الإمكانات الواعدة التى يمتلكها البلد، ويفتح آفاقا أرحب للحكومات فى مواجهة مشاكل البطالة والفقر وكفاءة استغلال الأصول.

ورغم ذلك، يحمل الاستثمار الأجنبى نفسه سمات خطرة تتوجس منها الشعوب والحكومات، وتختلف المخاوف على حسب الزاوية التى تنظر منها الدول إلى نقاط قوتها وضعفها.

فى بريطانيا، شنت الحكومة حملة على بعض الاستثمارات الإماراتية، خاصة تلك المتعلقة بعملية استحواذ محتملة تدعمها أبو ظبى على صحيفة التليجراف، فضلا عن الوقوف فى وجه استحواذ مجموعة الإمارات للاتصالات على حصة %14.6 بشركة فودافون.

وحتى فى الولايات المتحدة، التى بشرت سابقا بـ»إنجيل الخصخصة» ودعت الدول الأخرى إلى بيع الشركات المملوكة للحكومات، أضحى الاستثمار الأجنبى القادم من الصين «كابوسا» حاولت واشنطن مقاومته من خلال سن قوانين خاصة ترصد هذه الاستثمارات وتحاول منعها من الوصول والاستحواذ على أصول تعتبرها أكثر أهمية من المال، كالتكنولوجيا وأسرار الصناعات المعقدة.

فى أوروبا، تم التركيز على الشركات الأجنبية التى تتلقى إعانات من حكوماتها على نحو يمنحها ميزة تنافسية على الشركات الأوروبية أو حتى شرائها مستفيدة من الصعوبات المالية التى تواجهها.

وفى استراليا، وبينما كانت جائحة كورونا تضرب الشركات فى قطاعات عديدة، حشدت الحكومة أسلحتها القانونية للحد من الاستثمارات الأجنبية التى تستهدف استغلال اللحظة والاستحواذ على الأصول بأثمان بخسة.

وفى الدول النامية، تنشغل الشعوب أكثر بالبحث فى أغراض الاستثمارات الأجنبية التى تتدفق على بلدانهم المأزومة، حتى وإن كانت فى حد ذاتها حلا لجزء من تلك الأزمات.

هناك جملة من المكاسب التى تجنيها الاقتصاديات النامية من الاستثمار الأجنبى المباشر، على رأسها دوره فى زيادة معدلات النمو الاقتصادى واتصافه بالاستقرار وعدم الرغبة فى الفرار وسط الأزمات وسماحه بنقل التكنولوجيات المتقدمة المطلوبة بشدة واستعداده لتدريب الموظفين فى البلدان المستقبلة لهذا النوع من الاستثمارات.

لكن هذه الاستثمارات تمثل «لغزا» فى حد ذاته، إذ تتدفق فى بلدان قد تكون محكومة بأنظمة مستبدة، وتصنف أسواقها على أنها «عالية المخاطر»، ما يثير بالطبع القلق من أن تؤثر مستقبلا على الأمن القومى للدول المستضيفة، أو بيع الأصول بأبخس الأسعار استغلالا للأزمات، بجانب أنها تدفع هذه البلدان إلى تخفيض الحصيلة الضريبة المتحصلة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بهدف حثها على المجئ والاستثمار فيها.

ويدق تقرير لصندوق النقد الدولى جرس الإنذار محذرا من سعى البلدان النامية إلى زيادة الاستثمار الأجنبى المباشر دون تقوية المؤسسات والأسواق داخلها، إذ أن ضعف المؤسسات فى هذه البلدان وافتقارها إلى كفاءة الأسواق يدفع المستثمرين إلى العمل بشكل مستقل يهمش الأسواق المحلية.

تقرير الصندوق، حذر أيضا من أن تحصل تلك الجهات الأجنبية التى تضخ استثمارات أجنبية مباشرة على معلومات لا يعرف عنها المدخرون المحليون شيئا، مما يجعلهم الأجانب فى موقف أفضل يمكنهم من تحقيق أرباح أعلى عبر الاستحواذ على الأصول ذات الكفاءة الأعلى.

ومن ناحية أخرى، قد تتسبب الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى تفاقم احتكار منتجى السلع والخدمات، مما يضر بالمنتجين المحليين.

ولهذا، تقبل العديد من دول العالم على فرض قيود على الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتخضعها للفحص المشدد بهدف حماية الأمن القومى والتأكد من عدم وقوع الشركات التى تمر بضائقة مالية ضحية للمشترين الأجانب.

«المعلومات» ميزة غير عادلة يحصدها الأجانب فى الدول المأزومة

قد لا يصب الاستثمار الأجنبى المباشر لصالح البلدان المضيفة عندما تكون الأخيرة تمر بأزمات اقتصادية، وربما تكون عرضة أكثر لمخاطر بيع الأصول بأبخس الأسعار، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولى.

ولا يعد الاستثمار الأجنبى المباشر مجرد نقل للملكية من المقيمين المحليين إلى الأجانب فحسب، بل هو أيضا آلية تتيح للمستثمرين الأجانب ممارسة الإدارة والرقابة على شركات البلد المضيف، أى أنها آلية لحوكمة الشركات.

وعندما يتم  نقل الإدارة  فى خضم الأزمة، ينبغى طرح عدة تساؤلات، منها عما إذا كان نقل السيطرة المرتبط بالملكية الأجنبية مناسب فى ظل ظروف الأزمة.

وينبغى دق ناقوس الخطر عندما لا تكون سيطرة الشركات الأجنبية على الشركات المحلية راجعة إلى تمتعها بكفاءة خاصة تمكنها من إدارتها بشكل أفضل، بل إلى امتلاكها الأموال النقدية مقابل افتقاد السكان المحليين لهذه الأموال.

ميزة المعلومات

وبجانب هذا، قد لا يكون الاستثمار الأجنبى المباشر مفيدا بالضرورة للبلد المضيف.

فمن خلال الاستثمار الأجنبى المباشر، يحصل المستثمرون الأجانب على معلومات داخلية بالغة الأهمية حول إنتاجية الشركات الخاضعة لسيطرتهم، وهذا يمنحهم ميزة معلوماتية مقارنة بالمدخرين المحليين «غير المطلعين»، الذين لا يستلزم شراؤهم للأسهم فى الشركات المحلية السيطرة.

ومن خلال الاستفادة من هذه المعلومات المهمة، يميل المستثمرون المباشرون الأجانب إلى الاحتفاظ بالشركات العالية الإنتاجية تحت ملكيتهم وسيطرتهم، ويبيعون الشركات المنخفضة الإنتاجية إلى المدخرين غير المطلعين.

وبسبب اطلاعهم على هذه المعلومات يلجأ هؤلاء المستثمرين الأجانب إلى الإفراط فى الاستثمار داخل البلدان ذات المؤسسات والأسواق الضعيفة.

وقد لا يكون الاستثمار الأجنبى المباشر مفيداً للبلد المستقبل لها عندما يكون هذا الاستثمار موجها نحو خدمة الأسواق المحلية المحمية بحواجز جمركية مرتفعة، ففى ظل هذه الظروف، قد يؤدى الاستثمار الأجنبى المباشر إلى تعزيز جهود الضغط الرامية إلى إدامة سوء تخصيص الموارد، ومن الممكن أيضاً أن يكون هناك فقدان للمنافسة المحلية نتيجة لعمليات الاستحواذ الأجنبية مما يؤدى إلى إدماج المنتجين المحليين، إما من خلال عمليات الاستحواذ أو فشل الشركات.

علامة ضعف

ورغم المكاسب التى تجنيها البلدان المستقبلة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، لكن البلدان النامية ينبغى أن تتفادى تبنى موقف غير نقدى تجاه هذا النوع من الاستثمار، بحسب تقرير صندوق النقد.

يشير الباحثان هاوسمان وفرنانديز - أرياس إلى الأسباب التى تجعل ارتفاع حصة الاستثمار الأجنبى المباشر فى إجمالى تدفقات رأس المال إلى الداخل علامة على ضعف البلد المضيف وليس قوته.

فمن السمات البارزة لتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر أن حصتها فى إجمالى التدفقات الداخلة تكون أعلى فى البلدان الأكثر مخاطرة، حيث يتم قياس المخاطر إما من خلال التصنيف الائتمانى للبلدان فيما يتعلق بالديون السيادية (الحكومية) أو من خلال مؤشرات أخرى للمخاطر القطرية.

وهناك أيضًا بعض الأدلة على أن حصتها أعلى فى البلدان التى تكون فيها جودة المؤسسات أقل.

ومن المرجح أن يزيد الاستثمار الأجنبى المباشر فى البلدان التى تفتقر إلى أسواق أو تفتقر إلى الكفاءة مقارنة بالأشكال الأخرى من تدفقات رأس المال.

وفى مثل هذه الأوضاع، يفضل المستثمرون الأجانب العمل بشكل مباشر بدلاً من الاعتماد على الأسواق المالية المحلية أو الموردين أو الترتيبات القانونية، وتتمثل الآثار السياسية المترتبة على هذا الرأي، فى «أن البلدان التى تحاول توسيع نطاق وصولها إلى أسواق رأس المال الدولية ينبغى لها أن تركز على تطوير آليات إنفاذ ذات مصداقية بدلاً من محاولة الحصول على المزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر».

ويرى تقرير صندوق النقد الدولى أنه «ينبغى للبلدان أن تركز على تحسين بيئة الاستثمار وعمل الأسواق، ومن المرجح أن تتم مكافأتها باستثمارات مرتفعة الكفاءة بالإضافة إلى المزيد من الاستثمارات».

ومن الملاحظ أن الاستثمار الأجنبى المباشر يستحوذ على حصة أعلى من تدفقات رأس المال، عندما تكون السياسات والمؤسسات المحلية ضعيفة، وبرغم هذا لا يعد بمثابة انتقاد للاستثمار الأجنبى المباشر فى حد ذاته، فبدون المساعدة التى يقدمها هذا الاستثمار قد تصبح البلدان المضيفة أكثر فقرا.

المؤسسية وكفاءة الأسواق.. حائط صد ضد مخاطر المال القادم عبر الحدود

أثبت الاستثمار الأجنبى المباشر قدرته على الصمود وعدم الفرار خلال الأزمات المالية، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولى، وبالتالى فإنه يمثل طوق نجاة مثالى للدول النامية بشرط ضبطه بمؤسسية الهيئات التنظيمية ومحاولة رفع كفاءة الأسواق المحلية.

فعلى سبيل المثال، فى بلدان شرق آسيا، كان هذا الاستثمار مستقرا بشكل ملحوظ خلال الأزمات المالية العالمية فى الفترة 1997 - 1998.

وفى تناقض حاد، فإن الأشكال الأخرى من تدفقات رأس المال الخاص – تدفقات المحافظ والديون، وخاصة التدفقات قصيرة الأجل – تعرضت لانعكاسات كبيرة خلال الفترة نفسها، وكانت مرونة الاستثمار الأجنبى المباشر خلال الأزمات المالية واضحة أيضاً خلال الأزمة المكسيكية فى الفترة 1994 - 1995 وأزمة الديون فى أمريكا اللاتينية فى الثمانينات.

وقد تؤدى هذه المرونة إلى دفع العديد من البلدان النامية إلى تفضيل الاستثمار الأجنبى المباشر على الأشكال الأخرى من تدفقات رأس المال، مما يعزز الاتجاه الذى كان واضحا منذ سنوات عديدة.

ويسمح الاستثمار الأجنبى المباشر بنقل التكنولوجيا - خاصة فى شكل أنواع جديدة من المدخلات الرأسمالية - التى لا يمكن تحقيقها من خلال الاستثمارات المالية أو التجارة فى السلع والخدمات، ويمكن للاستثمار الأجنبى المباشر أيضاً أن يعزز المنافسة فى سوق المدخلات المحلية.

وكثيراً ما يحصل المستفيدون من الاستثمار الأجنبى المباشر على تدريب للموظفين أثناء تشغيل الشركات الجديدة، مما يساهم فى تنمية رأس المال البشرى فى البلد المضيف.

يزيد الاستثمار الأجنبى المباشر من النمو الاقتصادى عندما يكون مستوى التعليم فى البلد المضيف - وهو مقياس لقدرته الاستيعابية – مرتفعا، ويلخص تقرير صادر عن البنك الدولى عن تمويل التنمية العالمية النتائج التى توصلت إليها العديد من الدراسات الأخرى حول العلاقات بين تدفقات رأس المال الخاص والنمو، كما يقدم أدلة جديدة على هذه العلاقات.

كوليسترول ضار ونافع

تنظر العديد من البلدان المستقبلة لتدفقات رأس المال خاصة قصيرة الأجل، على أنها «كوليسترول ضار.»

ويرجع السبب إلى أنها تندرج ضمن الإقراض قصير الأجل القادم من الخارج وأنه يكون مدفوعا باعتبارات مضاربة مبنية على فروق أسعار الفائدة وتوقعات سعر الصرف، وليس على اعتبارات طويلة الأجل.

وغالبا ما تكون حركتها مبنية بتلبية رغبة الحكومات فى إنقاذ النظام المصرفى.

الاستثمارات من هذا النوع هى أول من تهرع إلى الخروج فى أوقات الاضطرابات، وهى المسؤولة عن دورات الازدهار والكساد فى التسعينيات.

وفى المقابل، يُنظر إلى الاستثمار الأجنبى المباشر باعتباره «كولسترولاً جيداً» لأنه لا يستطيع المغادرة بسهولة عند أول علامة على وجود متاعب.

5 استراتيجيات للجذب

يمكن أن يكون الاستثمار الأجنبى محركا رئيسيا للنمو الاقتصادى والتنمية فى البلدان، ومع ذلك، فإن جذب الاستثمار الأجنبى ليس بالمهمة السهلة دائمًا، فهو يتطلب استراتيجية واضحة وبيئة داعمة يمكن أن توفر للمستثمرين الحوافز والحماية اللازمة للاستثمار، بحسب نور الدين آيت بلا مستشار تنفيذ المشروعات فى السوق المغربى.

يبحث المستثمرون عن بيئة أعمال مستقرة ويمكن التنبؤ بها عند التفكير فى الاستثمار فى بلد ما، وهذا يعنى وجود إطار تنظيمى شفاف، وقوانين وسياسات واضحة، وتنفيذ متسق لتلك السياسات، ويجب على الدول أيضًا ضمان وجود استقرار سياسى والحد من الفساد لبناء الثقة مع المستثمرين.

ويمكن للحكومات أن تقدم مجموعة من الحوافز والإعفاءات الضريبية لجذب الاستثمار الأجنبى، ويمكن أن تشمل هذه الإعفاءات الضريبية، والتعريفات الجمركية المخفضة، والإعفاءات من ضرائب معينة. ويمكن أن تشمل الحوافز أيضًا المنح والإعانات لدعم الاستثمار فى صناعات أو مناطق محددة. ومع ذلك، من المهم التأكد من أن هذه الحوافز شفافة ومستهدفة ولا تخلق ميزة غير عادلة للمستثمرين الأجانب.

تسهم الأرباح الناتجة عن الاستثمار الأجنبى المباشر فى تمكين البلد المضيف من تعزيز إيرادات الضرائب المفروضة على الشركات.

وبطبيعة الحال، تختار البلدان غالبا التنازل عن بعض هذه الإيرادات عندما تخفض معدلات الضرائب على الشركات فى محاولة لجذب الاستثمار الأجنبى المباشر من مواقع أخرى. على سبيل المثال، قد يكون الانخفاض الحاد فى عائدات الضرائب على الشركات فى بعض البلدان الأعضاء فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (OECD) نتيجة لهذه المنافسة.

تعد القوى العاملة الماهرة أمرًا بالغ الأهمية لجذب الاستثمار الأجنبى، حيث يبحث المستثمرون عن مجموعة من المواهب التى يمكنها دعم عملياتهم، وينبغى للبلدان أن تستثمر فى برامج التعليم والتدريب لتطوير القوى العاملة لديها والتأكد من حصولها على المهارات اللازمة للمنافسة فى السوق العالمية.

تعد البنية التحتية أحد الاعتبارات الرئيسية للمستثمرين عند تحديد مكان الاستثمار. وينبغى للبلدان أن تستثمر فى البنية التحتية الحيوية مثل شبكات النقل وإمدادات الطاقة والمياه وتكنولوجيات الاتصالات لخلق بيئة جذابة للمستثمرين، ويمكن أن يؤدى ذلك أيضًا إلى تحسين نوعية الحياة للمواطنين، مما يجعل البلاد مكانًا أكثر جاذبية للعيش والعمل.

إن بناء علاقات دولية قوية يمكن أن يساعد البلدان على جذب الاستثمار الأجنبى. يمكن للدول تطوير شراكات مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية والمستثمرين العالميين لتعزيز بيئة أعمالهم وجذب الاستثمار، ويمكن أن يوفر ذلك أيضًا إمكانية الوصول إلى أسواق وتقنيات جديدة، وهو ما يمكن أن يدفع النمو الاقتصادى.

من أمريكا إلى استراليا.. فوبيا «فقدان الأصول» تطارد رأس المال الدولي

بعد عقود من التكامل الاقتصادى العالمى المتزايد، أدت التوترات الجيوسياسية المتزايدة إلى زيادة القيود المفروضة على التجارة وتدفقات رأس المال، وهى قيود كانت مدفوعة فى كثير من الأحيان باعتبارات الأمن القومي.

وتعمل هذه القيود على تمكين السلطات الوطنية من تقييد عمليات الاستحواذ الأجنبية فى القطاعات الاستراتيجية.

وعلى هذه الخلفية، تبنت أغلب الاقتصادات المتقدمة أو شددت آليات فحص الاستثمار القائمة، والتى تعمل على تمكين السلطات الوطنية من مراجعة، وربما اشتراط أو حظر، المعاملات التى قد تهدد المصالح المحلية، بما فى ذلك الأمن القومى والنظام العام.

وقامت عدد من الاقتصادات المتقدمة، التى كانت تقليديا منفتحة على الاستثمارات الأجنبية، بتنفيذ تدقيق أكثر صرامة للمعاملات الأجنبية منذ أواخر عام 2010 فصاعدا.

أوروبا.. جولة ضد الاستثمار المخيف

فى يونيو 2020، وفى ظل تاثيرات جائحة كورونا، عقد البرلمان الأوروبى جلسة عبر فيها عن مخاوفه من أن الشركات الأجنبية التى تتلقى إعانات من حكوماتها قد تحاول اكتساب ميزة تنافسية على الشركات الأوروبية.

وأعلنت المفوضية الأوروبية إطلاق مشاورة عامة حول كيفية التعامل مع الآثار التشويهية الناجمة عن الدعم الأجنبي، وقد أيد معظم أعضاء البرلمان الأوروبى الذين تحدثوا فى الجلسة العامة المبادرة وشددوا على الحاجة إلى المنافسة العادلة.

ونظرت مشاورات المفوضية فى تشوهات السوق العامة الناجمة عن الإعانات الأجنبية، ولكنها ركزت أيضًا على الإعانات الأجنبية التى تسهل الاستحواذ على شركات الاتحاد الأوروبى أو توفر ميزة غير عادلة فى تقديم العطاءات للمشتريات العامة.

وقال كريستوف هانسن العضور عن حزب الشعب الأوروبى إن «الصين ليست الدولة الوحيدة التى تتسوق الشركات التى أضعفها تأثير الوباء لكنها الفيل الموجود فى الغرفة فى هذا النقاش»، وأضاف: «إذا أردنا الحفاظ على الدعم الشعبى لسياستنا التجارية، فيجب علينا تزويدها بالأدوات اللازمة لفرض المنافسة العادلة».

وقالت أغنيس جونجيريوس العضو عن الحزب الاشتراكى الديمقراطى إنه لا يمكن السماح لاستخدام الآثار الاقتصادية لفيروس كورونا من أجل استغلال نقاط ضعف الشركات، مضيفة: «لا يمكننا أن ننظر فقط إلى الشركات التى تتلقى إعانات غير عادلة وتستخدمها لشراء شركاتنا».

وقالت ستيفانى يون-كورتن العضوة عن منظمة تجديد أوروبا: «تخيل مباراة كرة قدم يتبع فيها الفريق الأجنبى قواعد أسهل بكثير من تلك الموجودة على أرض الفريق.. ما الفائدة من مجرد مشاهدة المباراة وأنت تعرف مسبقًا من سيفوز.»

وتوصل أعضاء البرلمان الأوروبى على الحاجة إلى حماية شركات وأصول الاتحاد الأوروبى المهمة من عمليات الاستحواذ العدائية.

ودعا بعض أعضاء البرلمان الأوروبى إلى تعزيز القواعد المتعلقة بفحص الاستثمار الأجنبى المباشر فى الاتحاد الأوروبي، لا سينما وأن الاتحاد الأوروبى قد اعتمد إطارًا قانونيًا بهذا الشأن فى عام 2019 بهدف التأكد من أن الاستثمار لا يشكل تهديدًا للبنية التحتية الحيوية أو يسمح بالوصول إلى المعلومات الحساسة أو التقنيات الرئيسية، وقد دخل حيز التنفيذ فى أكتوبر 2020.

أمريكا تحصن تقنياتها

تشن الولايات المتحدة حربا منظمة ضد الاستثمارات الأجنبية القادمة من الصين، وسط مخاوف من أن تحصل شركات بكين على أصول لا يمكن تعويضها، بما فى ذلك أسرار التكنولوجيا المتقدمة.

ومؤخرا، أقرت واشنطن أمرا تنفيذيا جديدا، يقيد حتى الاستثمارات الأمريكية فى التقنيات الحساسة بالصين وهونج كونج وماكاو.

وجاءت تلك القيود بعد سنوات من القلق المتزايد بشأن استحواذ الصين على التكنولوجيات المتقدمة، حيث فرضت إدارة دونالد ترامب تعريفات غير مسبوقة بقيمة 360 مليار دولار على المنتجات الصينية، وأتبعها بايدن بضوابط التصدير التى قال الخبراء إنها تهدف إلى «خنق» صناعة التكنولوجيا الصينية.

كما قامت إدارة بايدن بإثناء الحلفاء عن بيع شركات الرقائق إلى الصين، ففى مارس 2023، أعلنت هولندا، موطن التكنولوجيا المستخدمة لصنع الرقائق الأكثر تقدما، عن نظامها الخاص لمراقبة الصادرات؛ وحذت اليابان التى توفر نصف مواد أشباه الموصلات العالمية، حذوها بعد أسابيع.

وفى الولايات المتحدة، يقوم مسؤولو الأمن القومى بفحص سلسلة من عمليات الاستحواذ التى يقوم بها مستثمرون فى أبو ظبى بسبب مخاوف بشأن علاقات الإمارات مع الصين.

وقد تم الكشف فى نوفمبر الماضى عن أن لجنة الاستثمارات الأجنبية فى الولايات المتحدة (CFIUS)، وهى مجموعة سرية تتولى التدقيق فى عمليات الاستحواذ الأجنبية على الشركات الأمريكية، هى التى كانت تقوم بهذا العمل.

ويشعر المسؤولون بالقلق من أن عمليات الاستحواذ على الأصول الأمريكية الحساسة من الصناديق فى الخليج يمكن أن تضر بالأمن القومى بسبب نفوذ الصين المتزايد فى المنطقة، حيث عززت الإمارات علاقاتها بشكل أوثق مع الصين وروسيا فى الأشهر الأخيرة.

يأتى ذلك، رغم أن واشنطن قادت على مدار سنوات طويلة الجهود الدولية لإزالة الحواجز أمام تدفقات رأس المال عبر الحدود بهدف توسيع فرص الاستثمار للشركات الأمريكية متعددة الجنسيات وإنشاء نظام دولى أكثر استقرارًا وكفاءة.

واعتمدت الولايات المتحدة بشكل كبير على التدفقات الأجنبية للتعويض عن النقص فى المدخرات فى الداخل، وهى تُصنف بشكل روتينى بين الوجهات الأكثر ملاءمة للمستثمرين الأجانب المباشرين، حيث يلعب الاستثمار الأجنبى المباشر - ملكية أو سيطرة كيان أجنبى بنسبة %10 أو أكثر من مؤسسة محلية - دورًا مهمًا ومتناميًا فى الاقتصاد الأمريكي.

وفقًا لبحث أجرته وزارة التجارة الأمريكية، دعم الاستثمار الأجنبى حوالى ستة عشر مليون وظيفة فى الولايات المتحدة فى عام 2019، أو %10.1 من إجمالى القوى العاملة، وفى المتوسط، تدفع الشركات الأجنبية رواتب أعلى من منافسيها المحليين.

بريطانيا تعرقل استثمارات الإمارات

فى يناير الماضي، توصل وزراء بريطانيون إلى أن حصة الإمارات فى شركة الاتصالات فودافون تشكل تهديداً للأمن القومى البريطاني، حيث تدخل نائب رئيس الوزراء أوليفر دودن للمطالبة بالحماية من الدولة الخليجية بعد أن أصبحت أكبر مساهم فى فودافون بحصة تبلغ %14.6 بقيمة 2.7 مليار جنيه إسترليني.

وكانت الصفقة الإماراتية على فودافون جزءًا من موجة شراء دول الخليج الغنية بالنفط فى الصناعات الحساسة فى الغرب، الأمر الذى أثار قلق بعض المسؤولين الأمنيين.

وجاء تدخل دودن، فى الوقت الذى قام فيه الوزراء أيضًا بتدقيق عملية الاستحواذ التى تمولها أبو ظبى على صحيفة التليجراف.

ويُنظر إلى الصفقات التى تشمل صناديق أبو ظبى على أنها تستحق التدقيق بشكل خاص لأن قرارات الاستثمار يتم اتخاذها من قبل مجموعة صغيرة من أفراد العائلة المالكة.

استراليا تخشى من «الأثمان البخسة»

وجهت مقالة رأى انتقادات للحكومة الاسترالية بسبب اقتراحها تشديد القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى البلاد.

تم طرح التعديل فى مارس 2020، خلال ذروة جائحة كوفيد-19، لفحص جميع الاستثمارات الأجنبية فى استراليا، حتى يتسنى التأكد من عدم وقوع الشركات التى تمر بضائقةضحية للمشترين الأجانب وعدم تعريض الأمن القومى للبلاد للخطر.

ويقتضى التعديل إخضاع الاستثمارات الأصغر حجما لذات عمليات الفحص التى تخضع لها الاستثمارات الأكبر.

ويقتضى التعديل فحص الاستثمارات فى الأراضى وشركات الاتصالات و»البنية التحتية الحيوية» وعمليات توريد السلع والخدمات للاستخدام العسكري، وتشمل الأراضى الخاضعة للفحص مبانى الدفاع والأراضى التى تهم مجتمع الاستخبارات الوطنى والأراضى الأخرى التى يعلن عنها وزير الخزانة.

ويلتزم المستثمرون الأجانب بإخطار الحكومة عند الاستثمار فى هذا النوع من الأصول. ويمكن للحكومة بعد ذلك أن تقرر ما إذا كانت ستوافق على المشروع.

ليست استراليا وحدها فى فحص الاستثمارات، لكن تطبيق الصلاحيات بأثر رجعي، وعلى مدى هذه الفترة الطويلة من الزمن، يضيف المزيد من عدم اليقين إلى عملية صنع القرار فى مجال الاستثمار الأجنبى ومن المرجح أن يعيق تدفقات رأس المال، بحسب تقرير لكاتب رأى على موقع إيسترن إيشا فورم.

يتم استخدام الأدوات الاقتصادية مثل الحظر أو الضوابط للتعامل مع مسائل الأمن القومي. ومن المتوقع أن يؤدى الحد من وصول الأجانب إلى الأصول إلى تقليل خطر انتهاك الأمن القومي، ولكن هناك فجوة بين ملكية الأصول أو الأعمال التجارية، والأفعال التى تهدد الأمن القومي.

وبحسب التقرير، يؤدى النهج المخطط له إلى تكاليف كبيرة. وبالإضافة إلى التأثير السلبى على تدفقات رأس المال، يسهم الاستثمار الأجنبي فى إنجاز أهداف الأمن القومي، على سبيل المثال، فهو يزيد من عدد الموردين المحتملين، ويزيد المنافسة، ويقدم تكنولوجيات بديلة ويقلل الاعتماد على أنظمة الإنتاج الفردية.

هل يردع الفساد «التدفقات الخارجية»؟

فى العقدين الماضيين، تدفق قدر كبير من الاستثمار الأجنبى المباشر فى القطاعات الأولية (التى تشمل جميع الأنشطة التى يتمثل الغرض النهائى منها فى استغلال الموارد الطبيعية) إلى وجهات غير تقليدية ومحفوفة بالمخاطر السياسية.

وقد مثل هذا لغزا بالنسبة للنظريات التى تؤكد جمود الاستثمار فى الأصول الثابتة بالدول المضطربة، حيث ترتفع مخاطر المصادرة المحتملة فى الحقب اللاحقة، وهو ما يعنى أنه ينبغى على المستثمرين الأجانب فى الأصول الثابتة، أن يفضلوا البلدان التى تتمتع بحماية قوية لحقوق الملكية.

ومع ذلك، تشير مجلة الدراسات الدولية الصادرة عن أكاديمية أوكسفورد، إلى أن تلك النظريات تتجاهل أن تلك الأسواق توفر بيئة جذابة لمستثمرى الأصول الثابتة. ففى مثل هذه الأنظمة، تعمل سيطرة عائلات قادة الدول على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، إلى جانب الافتقار إلى القيود المؤسسية، على تسهيل أنشطة البحث عن الريع.

ووجدت الدراسة أن تلك الأنظمة تتلقى استثمارات أجنبية أكبر بكثير فى القطاع الأولي، والصناعات كثيفة الأصول الثابتة بشكل عام، مقارنة بالأنظمة الأخرى.

وهم الفساد الرادع

وتوصلت دراسة أعدتها «جامعة فيلنيوس» الليتوانية، إلى أن البلدان النامية ذات معدل النمو المرتفع (حول %6) تجتذب المزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر مقارنة بالبلدان ذات معدلات النمو المنخفضة رغم أنها غارقة فى الفساد.

ولفتت إلى الشركات متعددة الجنسيات تبدو مستعدة للتعامل مع الفساد فى البلدان ذات معدلات النمو المرتفعة.

يأتى هذا بينما تطلب المؤسسات الدولية من البلدان النامية وضع سياسات لجذب الاستثمار الأجنبى المباشر الذى يعزز النمو والتنمية، مع نظرة معتادة بأن الفساد يعطل ويعقد تنفيذ السياسات التى تحكم تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر وعمليات الشركات الأجنبية.

وتبنى هذه الطلبات على اساس أن الفساد يهدد بعرقلة تقدم الدول النامية عن طريق وقف تدفق الاستثمار الأجنبى المباشر إلى هذه البلدان، حيث ينخرط المسؤولون فى تدافع مجنون للحصول على أكبر قدر ممكن من الموارد المالية الواردة لأنفسهم ولأسرهم وأصدقائهم، حتى لو كان ذلك على حساب التنمية المستقبلية.

وبالتالى فإن الحصول على الرشاوى يؤدى إلى ارتفاع تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، والتكلفة التى يتحملها المستهلكون، ويزيد من صعوبة اختراق السوق، مما يجعل البلد المضيف أقل جاذبية لمزيد من الاستثمار الأجنبى المباشر.

الثمن الفادح

ومع ذلك، فإنه على المدى الطويل، تدفع الدول أثمانا باهظة إذا ما عٌرفت بأنها موطنا للاستثمار الفاسد.

ووفق الدراسة فإنه إذا أصبحت الدولة معروفة بجذب الأنواع الخاطئة من الشركات متعددة الجنسيات التى تنخرط باستمرار فى ممارسات فاسدة، لن يؤدى هذا إلا إلى ترسيخ مكانتها بين مجموعة البلدان الفاسدة التى سوف تخيف الاستثمار الأجنبى المباشر الجيد.

وهناك عدة أسباب لهذا، أولها أنه لدى الدول المتقدمة الكبرى قوانين ضد رشوة الموظفين العموميين الأجانب، وبالتالى فإن تعزيز سمعة بلد ما كموقع فاسد للاستثمار الأجنبى المباشر سيؤدى بالتأكيد إلى مزيد من التدقيق فى عمليات الشركات المتعددة الجنسيات من البلدان الأصلية التى تتمتع بقوانين قوية لمكافحة الفساد، مما يزيد من صعوبة عملها فى البلد المستضيف.

إضافة إلى ذلك، فإن ترسيخ مكانة الدولة الفاسدة يعنى أن التكاليف والمخاطر المرتبطة بالاستثمار الأجنبى المباشر ستكون أكبر بكثير (نظرًا لأن الفساد المتفشى يبدو أنه الرادع الأكبر للاستثمار الأجنبى المباشر)، وبالتالى فإن الاستثمار سيكون أقل جاذبية.

كذلك، إذا أصبحت حقيقة مقبولة أن الشركات متعددة الجنسيات داخل البلد المضيف تعمل بشكل فاسد، فيمكن للشركات متعددة الجنسيات القادمة أن تتوقع أنه سيُطلب منها الانخراط فى ممارسات فاسدة من أجل البقاء هناك، ويصبح هذا عائقًا إضافيًا أمام دخول البلد، خاصة للشركات المتعددة الجنسيات من الدول التى ليس لديها خبرة فى التعامل مع الفساد والقوانين المناهضة له.