عن استخدام بعض الحجج فى الجدال العام (1)
أبدأ باعتراف. أنا متأكد أننى أرتكب بعض ما يعتد به من الأخطاء التى أحذر منها هنا. كلامى هنا نقد لذاتى، كما هو نقد لغيرى. وقد يكون غير مرتب، فإننى أفكر بصوت عالٍ.
سمعت كثيرًا أثناء مشوارى الأكاديمى تهمة تُوجه ضد فلان أو علان - وضدى أحيانًا. «هذا الكلام غير موضوعيّ»، وطبعًا هناك كلام غير موضوعى، لكن هناك فى أحوال كثيرة خلطًا بين الموضوعية وعدم الانحياز. الموضوعية تقتضى الإقرار بأن الطرف «أ» مخطئ فى موقفه فى القضية «ق»، نعم هذا انحياز للطرف «ب».
عندما أقول: هذا الطرف مخطئ، يفهم البعض أننى أستحسن اتخاذ موقف صريح منه، وربما إجراءات ضده. لكن هذا استنتاج متسرع، سواء فى التعامل بين أشخاص أم فى التعامل بين دول. لن أقاطع صديقًا أو طرفًا أتعامل معه لأنه ظلم شخصًا لا أعرفه، وقد يعتدى على من أعرفه أو على من أودُّه، لكننى أرى أن إبقاء التواصل والتعامل معه يحققان مصلحة أراها مهمة. وقد يترتب على ذلك تفضيل السكوت، رغم فداحة ووضوح الظلم، وقد يقتضى الكذب وقلب الحقائق. ولكن اتهام من يندد بالظلم بأنه «غير موضوعيّ» كلام فارغ. أما اتهامى بأننى أكيل بمكيالين لأن موقفى من الظالمين ليس واحدًا، فهو اتهام موضوعى ومستحَق، ولكنه اتهام يطول الكل بدرجات متفاوتة.
التعقيدات لا تتوقف عند هذا الحد. ذنب مَن يسكت ولا يتخذ أى تدبير يكون أكبر إن كان يستطيع أن يدين أو يفعل شيئًا دون تكلفة تُذكر، لا يمكن طلب من أم أن تدين ابنها، إدانة الصديق العزيز أصعب من إدانة من لا أعرفه، وفى المقابل فإن أدنت شخصًا، واتخذت تدبيرًا لا يكلفنى شيئًا، فيمكن اتهامى بتسجيل موقف، والمقارنة بين موقفى هذا ومواقفى عندما يكون لديّ مصلحة تدفعنى إلى السكوت. وأخيرًا وليس آخرًا، إن كان الظالم صديقك، وأثبتت الأيام أن العدوانية الدائمة والافتراء والإجرام سمات شبه دائمة لسلوكه، فعليك أن تفكر بجدية فى مقاطعته. وإن لم تفعلها فلا تغضب إنْ تمت إدانة سلوكك.
للأسف، هناك ميل لدى الكثيرين فى كل الثقافات إلى تحديد موقفهم من العدوان وتقييمهم إياه بناءً على هوية المعتدى وهوية المعتدَى عليه، وإلى غض النظر عن جسامة هذا العدوان إن كان المعتدَى عليه من فريق لا أحبه. هذا الميل قوى جدًّا عند العقائديين والطائفيين.
وأودّ أن أضيف شيئًا أتصور أن له تبعات، ولا سيما فى السياسة. عليك أن تميز بين الأوضاع التى تُعرّض طرفًا لخطر وجوديّ، وغيرها. عندما يكون الخطر وجوديًّا، لن يغفر لك مَن رفضت أن تنصر قضيته، ولا سيما إن دافعت عن الطرف المعتدى، لا أقول إنه سيكفّ عن التعامل معك، ولكنه لن ينسى موقفك. ومِن نافلة القول إن ما يعتبره طرف خطرًا وجوديًّا، لا يعتبره غيره كذلك. فالأمن مفهوم موضوعى وذاتيّ فى آن واحد. وإقرار هذا لا يعنى أن النسبية مطلقة، فهناك أطراف لديها أوهام، والإحساس بخطر وجوديّ لا يبرر أى سلوك.
كل هذا يعنى أن فهم مدركات الآخر ضرورى.
كثيرًا ما نسمع جملًا من عيّنة... اتخذ «أ» هذا الموقف لأن وضعه الشخصى «كذا»، أدافع عن الملكية الخاصة لأننى برجوازى، أو أدين أفعال فصيل سياسى لأننى لا أحبه ولأنه يعادى طبقتى أو مِلّتى أو ثقافة بلادى.
لن أقول إن هذا الشرح لكلام أو موقف خاطئ بالضرورة، ولكنه ليس ردًّا عليه. عندما أقول: هذا الكلام ماركسى أو ناصرى أو برجوازى أو طائفى، أقوم بنزع شرعية الحديث والمتحدث، ولكننى بفعلتى هذه أتفادى مناقشة مضمون الحديث، وهذا التفادى رفض للحوار، وهو موقف شائع لما فيه من استسهال. هل يعنى هذا ضرورة رفضه وإدانته؟ القصة أكثر تعقيدًا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية
