الأرجنتين تفكك «الدولة القمعية» أملا في نهاية «الانحطاط»

فى خضم وضع اقتصادى كئيب، ووسط مزاج شعبى غاضب، اختار الأرجنتينيون رئيسا جديدا من أقصى اليمين الشعبوى المتطرف، غير عابئين بأفكاره الاقتصادية

Ad

فى خضم وضع اقتصادى كئيب، ووسط مزاج شعبى غاضب، اختار الأرجنتينيون رئيسا جديدا من أقصى اليمين الشعبوى المتطرف، غير عابئين بأفكاره الاقتصادية التى تحمل فى طياتها الكثير من الألم، آملين فقط فى أن ينجز وعده بإنهاء «الانحطاط» وكسر «أغلال الدولة القمعية» ومنحهم سوقا حرة بالكامل وخالية من «النخب الاقتصادية الفاسدة».

وخافيير مايلي، الرئيس الليبرالى الجديد، هو أستاذ اقتصاد، ليس لديه أى خبرة تنفيذية، ولم يخف أجندته الإصلاحية المتطرفة التى لا تقبل «أنصاف الحلول»، والتى تذهب إلى حد دولرة الاقتصاد، وخفض الإنفاق الحكومي، وتقليص دولة الرفاهية المتضخمة، وإزالة الضوابط المصطنعة على الصرف، ووقف طباعة أموال البنك المركزي، وتحرير الأعمال التجارية، وحتى توسيع نطاق ملكية الأسلحة، وتشريع بيع الأعضاء البشرية.

لقيت أفكار مايلى صدى لدى الناخبين الأرجنتينيين الغاضبين من الإخفاقات الحكومية المستمرة، إذ فشلت بلادهم لعقود من الزمن فى تحقيق أقصى استفادة من ثروتها الطبيعية الوفيرة ورأس مالها البشرى الغنى.

ولم يضيع مايلى أى وقت، إذ بعد 48 ساعة من توليه منصبه فى العاشر من ديسمبر الماضي، كشف وزير الاقتصاد لويس كابوتو، وهو مصرفى سابق، عن إجراءات لخفض الإنفاق العام بنسبة %3 من الناتج المحلى الإجمالي، وخفض قيمة البيزو، وتعهد بخفض إعانات الدعم، وألغى تسعة من أصل 18 وزارة حكومية، وبعد أسبوع واحد أصدر مايلى مرسوما يسمح بخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وإلغاء الضوابط على الأسعار، وإصلاح قوانين العمل.

وتقف الأرجنتين على أسس اقتصادية واعدة، بداية من ازدهار تعدين الليثيوم، والتوسع السريع فى إنتاج النفط والغاز الصخري، وصادرات الأعمال الزراعية القوية، لكن طريقها إلى الاستقرار الاقتصادى والازدهار يظل محفوفاً بالمخاطر، فى ظل حقيقة أن التعويم المنفلت للعملة قد يقود إلى الانزلاق بتضخم مفرط، فضلا عن خطر الاحتجاجات الاجتماعية التى بدأ الحشد لها بالفعل وفى وقت مبكرا بداية من الغد فى أول اختبار حقيقى لقدرة مايلى على مواجهة الإضرابات النقابية المنظمة.

إصلاح متطرف لنزع سلاح «الشبكات الاقتصادية الفاسدة»

فى قلب أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها الأرجنتين منذ عقدين من الزمن، دشن الرئيس الأرجنتينى الجديد موجة نشاط تستهدف دفع الميزانية إلى منطقة الفائض قبل حلول موعد مدفوعات الفائدة بحلول نهاية عام 2024.

وتحظى الخطة بدعم صندوق النقد الدولى، الذى تدين له الأرجنتين بمبلغ 43 مليار دولار، ففى العاشر من يناير الجارى، وافق على استئناف دفع المزيد من المبالغ إلى الخزانة الأرجنتينية، مشيرا إلى أن حكومة مايلى «تحركت بسرعة وبشكل حاسم» من أجل «استعادة استقرار الاقتصاد الكلي».

لكن، وبحسب مجلة «الإيكونوميست»، بالإضافة إلى سعيه لتحقيق الاستقامة المالية، فإن مايلى مصمم بإصرار على تدمير ما يسميه «الطبقة»، وهى شبكة من السياسيين الفاسدين، ورفاق الأعمال، وكودار الإعلام، والأهم من ذلك، النقابيون الأقوياء.

فى 27 ديسمبر الماضى، أرسل مايلى مشروع قانون «شامل» مترامى الأطراف إلى الكونجرس، يهدف إلى «تحرير القوى المنتجة للأمة من أغلال الدولة القمعية».

وسيسمح له بالحكم بموجب مرسوم لمدة عامين، وتغيير النظام الانتخابى فى الأرجنتين، وفرض أحكام بالسجن تصل إلى 6 سنوات على أولئك الذين ينظمون الاحتجاجات التى تعرقل النقل أو تلحق الضرر بالممتلكات.

ويشعر المحامون بالغضب إزاء خطط تسريع إجراءات الطلاق من خلال السجل المدنى دون الحاجة إلى خدماتهم، ويكره الأطباء المطلب الجديد المتمثل فى وصف الأدوية الجنيسة (المكافئة) بشكل تفضيلى، فيما يحتج فنانون على تقليص مخصصاتهم وإغلاق المعهد الوطنى للمسرح، ويعترض الصيادون على إلغاء القيود التنظيمية على التصاريح، ويعارض منتجو السكر خطط إلغاء الرسوم الجمركية على الواردات، وتناور أندية كرة القدم للتهرب من خطط تحويلها إلى شركات محدودة من أجل جذب الاستثمارات مما يسميه مايلى «المجموعات العربية».

لكن لا أحد أكثر تأثرا من نقابات العمال فى الأرجنتين، حيث من شأن الإصلاحات العمالية أن تعيقهم من خلال إلزام الموظفين بضرورة الاشتراك بأنفسهم فى عضوية النقابات، بدلاً من أن يتم تحصيل اشتراكاتها منهم تلقائياً، كما هى الحال فى الوقت الحاضر، ومن شأن هذا أن يجرد النقابات من مصادر تمويلها.

فى اليوم التالى لتعهد مايلى «بكسر أغلال الدولة القمعية»، دعا الاتحاد العام للعمال، وهو أكبر مجموعة نقابية فى الأرجنتين، إلى إضراب وطنى يوم 24 يناير الجارى. وهذا وقت قياسى بالنسبة لرئيس أرجنتينى يواجه مثل هذا الإجراء عقب فترة قصيرة من انتخابه.

وتعتبر النقابات العمالية عنصرا أساسيا فى النظام الذى يسعى مايلى إلى هدمه، فهى قوية ومستقرة، وغالبًا ما تُدار مثل الشركات العائلية.

على سبيل المثال، كان لنقابة سائقى الشاحنات نفس الرئيس، هوغو مويانو، لمدة 36 عاما، وتم تعيين ابنه الأكبر كرئيس مشارك للنقابة، وتجلس ابنة وابن آخر فى مجلس الإدارة، فى حين يدير ابن آخر نقابة منفصلة أنشئت للعاملين فى تحصيل الرسوم، ثم أصبح عضوا فى الكونغرس.

تمتلك العائلة أندية كرة قدم وتدير حزبًا سياسيًا، وقد تم التحقيق معهم بتهم الفساد وغسل الأموال والاحتيال، لكن القليل من التحقيقات انتهت بتوجيه اتهامات لهم.

2024.. تدابير جذرية مؤلمة

يرى المراقبون أن نجاح خطة الإصلاح الاقتصادى فى الأرجنتين مرهون بقدرة الشعب على تحمل الظروف الاقتصادية الصعبة التى ستزداد صعوبة بعد إعلان الرئيس خافيير مايلى مؤخرا عن خفض فى قيمة العملة بجانب إجراءات تقشفية أخرى.

ويشير الفوز الكبير الذى حققه فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى استشعار الجماهير شدة الحاجة اتخاذ خطوات جادة صوب الإصلاح الاقتصادى، لكنه ليس من المستحسن قضاء وقت طويل دون تحقيق أى ثمار ناجمة عن تطبيق الإصلاحات، لأن هذا يهدد بخسارته الدعم الشعبى، وبالتالى فشل برنامج الإصلاح.

وتبدو الخطوات الاقتصادية المؤلمة التى أعلنها رئيس الأرجنتين الجديد شديدة القسوة، إذ شملت خفض قيمة العملة إلى النصفوتقليص المساعدات المقدمة لحكومات المقاطعات، وإيقاف المشروعات العامة، وقطع الدعم عن الغاز والكهرباء ورفع بعض الضرائب.

ومع ذلك، فإن اقتصاد الدولة الواقعة فى أمريكا الجنوبية أصبح فى حالة سيئة ــ وكان كذلك لفترة طويلة ــ حتى أن العديد من المحللين يعتقدون أن مثل هذه التدابير الجذرية فقط هى التى توفر فرصة واقعية لإنقاذ الاقتصاد، بحسب تقرير للأسوشيتد برس.

ويؤكد خبراء الاقتصاد على أهمية استمرار دعم الشعب الأرجنتينى لخطته الاقتصادية حتى برغم بدء ظهور المعاناة الاقتصادية الحقيقية التى ستنجم عن تطبيق هذه التدابير، وأعطاه الشعب الأرجنتينى ما يقرب من %56 من الأصوات فى جولة الإعادة فى انتخابات الإعادة فى نوفمبر الماضى.

وقالت مونيكا دى بول، زميلة بارزة فى معهد بيترسون للاقتصاد الدولى: “يبدو أن لديهم شعوراً بأن السكان أعطوهم تفويضاً للقيام بكل هذه الإجراءات المؤلمة”.

وتابعت:”فى اللحظة التى يبدأ فيها (الأرجنتينيون) رؤية جيوبهم فارغة ولا شيء يتحسن حقًا لأن الأمر سيستغرق وقتًا سينفد صبر الناس، ويمكن أن يتبخر هذا الدعم”.

ما يجعل التحدى الذى يواجه مايلى صعبًا للغاية هو أن خطته ستجعل حياة الناس أسوأ قبل وقت طويل من تحسنها، ويعنى انخفاض الدعم الحكومى أن الأرجنتينيين سيدفعون المزيد مقابل الكهرباء والنقل، وانخفاض قيمة البيزو سيجعل الواردات أكثر تكلفة، وقال دى بول إن معدل التضخم السنوى قد يتضاعف إلى %300.

وقال مارتن كاستيلانو، رئيس أبحاث أمريكا اللاتينية فى معهد التمويل الدولى، وهى مجموعة تجارية مصرفية تتوقع انكماش اقتصاد الأرجنتين بنسبة %1.3 فى عام 2024: “الركود فى العام المقبل أمر لا مفر منه، نعتقد أنه سيكون كذلك سنة مؤلمة”.

التضخم المفرط.. كيف نجح «الجار» فى التغلب على المشكلة؟

يكمن الحل الواقعى الوحيد لمشاكل الأرجنتين فى مجموعة من الإصلاحات المالية والمؤسسية والنقدية العميقة على غرار ما فعلته البرازيل فى عام 1994 بخطتها الحقيقية، والتى أدت إلى التغلب على أكثر من عشرين عاما من التضخم المفرط، بحسب تقرير لموقع بيى.

وأشار التقرير إلى أن اقتصار مشاكل الأرجنتين على العجز والديون المرتفعين تجعل مهمة مايلى أكثر سهولة وتساعده على الوفاء بتعهده ببلوغ «نهاية الانحطاط»، على حد تعبيره فى خطاب النصر.

ولكن يتعين على الأرجنتين الآن أن تتعامل مع التضخم المفرط أيضا، إن التضخم المفرط ليس مشكلة تضخمية عادية، وهو يعكس انهياراً كاملاً فى الثقة فى المؤسسات المسؤولة عن الحفاظ على قيمة العملة.

وليس من المستغرب أن يشعر مواطنو الأرجنتين البالغ عددهم 46 مليون نسمة بأنهم قد ضاقوا ذرعا بالوضع الراهن، ورغم أن نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى الأرجنتين يأتى فى المرتبة الثانية بعد شيلى وأعلى بنسبة %40 من نظيره فى البرازيل، فإن معدل التضخم الحالى يتجاوز %140 سنويا.

ويبلغ العجز المالى أكثر من %4 من الناتج المحلى الإجمالى، كما وصلت نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى %80 والأهم من ذلك، أن الأرجنتين لديها 21 مليار دولار فقط من الاحتياطيات الدولية فى بنكها المركزى بينما تواجه دفعة قادمة بقيمة 4 مليارات دولار لصندوق النقد الدولى.

وللتغلب على التضخم المفرط، وضع مايلى الدولرة على الطاولة، لكن المسار الذى يقترحه ليس قابلا للتطبيق أو مرغوبا فيه، إذ إن الدولرة تحرم الأرجنتين من القدرة على إدارة سياساتها النقدية وسياسات سعر الصرف، وهو ما يشكل عائقاً شديداً أمام الاقتصاد الأرجنتينى الناشئ المبتلى بالصدمات الخارجية.

علاوة على ذلك، لن تتمتع الدولرة بالمصداقية إذا فشلت الحكومة فى الاحتفاظ بالقدر الكافى من الاحتياطيات الدولية لنشرها للحماية ضد مثل هذه الصدمات، وفى الوقت الحالى، تتجاوز التزامات الأرجنتين المقومة بالدولار أصولها المقومة بالدولار. وبالتالى فإن صافى احتياطياتها أصبح سلبيا، فهى مدينة بالدولار للأجانب أكثر مما تملكه.

وبعد ست محاولات لتغيير عملتها، نجحت البرازيل فى محاولتها السابعة، وقد جربت الأرجنتين هذا الطريق مرتين على الأقل فى الثمانينيات وفشلت، ويتعين عليها أن تحاول مرة أخرى، ولكن هذه المرة فقط من خلال الإصلاحات المؤسسية التى تغرس الثقة فى العملة الجديدة، وسوف تستلزم مثل هذه الإصلاحات تعديلاً مالياً هائلاً، وهو ما تعهدت الحكومة المقبلة بتنفيذه، فضلاً عن فرض قيود على الإنفاق والاقتراض من جانب الأقاليم وقوانين جديدة من شأنها أن تمنع البنك المركزى من إصدار الأموال لتمويل العجز المالى، ولن تتطلب مثل هذه الخطة التخلى عن سيادة الأرجنتين على المسائل النقدية وأسعار الصرف فى برنامج الدولرة.

مفارقة «بريكس» لخطب ود واشنطن

فى سياق المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، فإن أغلب دول أمريكا اللاتينية لا تزال تتبع مبدأ دبلوماسيا محايدا نسبيا يتمثل فى عدم الانحياز إلى أى طرف، ومع ذلك، من المرجح أن يكون لتولى خافيير مايلى منصبه تأثير معين على الوضع الحالى، فقد أعلن بوضوح أنه يريد أن يجعل من الولايات المتحدة محور سياسته الخارجية، الأمر الذى قد يكون له تأثير على اتجاه الوضع الدبلوماسى فى أمريكا اللاتينية.

وبحسب موقع جلوبال تايمز، يعكس اختيار حكومة مايلى سحب طلب الانضمام إلى مجموعة البريكس ارتباكها فى إيجاد الطريق الصحيح للتنمية، وقد اكتشف عدد متزايد من بلدان أمريكا اللاتينية، بعد مئات السنين من التنمية الغربية، أن هذا المسار لم يحل مشاكلها الأساسية المتمثلة فى ضعف النمو الاقتصادى والظلم الاجتماعى، ومقابل هذا، توفر دول البريكس لها خيارًا آخر للتنمية.

وزار مايلى الولايات المتحدة فى أغسطس ونوفمبر من العام الماضى، مما يشير إلى رغبته فى الحصول على دعم الولايات المتحدة للتعديلات الاقتصادية المستقبلية فى الأرجنتين، إن اختيار عدم الانضمام إلى البريكس يثبت أن مايلى يعتقد أن الانضمام إلى مجموعة البريكس يعادل أن تكون على الجانب الآخر من الولايات المتحدة.

ومع ذلك، يعتقد لين هيو، الأمين العام لمركز البحوث الأرجنتينى، أنه من المشكوك فيه ما إذا كانت الولايات المتحدة ستقدم دعما كبيرا للأرجنتين لمجرد أن الأخيرة اختارت ألا تكون جزءا من البريكس، إن دعم الولايات المتحدة للأرجنتين يدور حول عدم الرغبة فى رؤية مجموعة البريكس، التى يُنظر إليها على أنها ثقل موازن للعالم الذى يهيمن عليه الغرب، وقد أصبحت أقوى، وأشار المحللون إلى أن مايلى تجاهل التناقضات التاريخية والحالية بين الولايات المتحدة والأرجنتين وفشل فى إدراك الوضع الاستراتيجى الحالى والطبيعة المهيمنة للولايات المتحدة.

وأشار لين إلى أن اختيار حكومة مايلى عدم الانضمام إلى البريكس يجعل من الصعب تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الأعضاء، مضيفًا أنه على المدى الطويل، من المحتمل أن يؤدى هذا الاختيار إلى خلق احتكاك بين الأرجنتين ودول البريكس.

وساهمت الاستثمارات الصينية جنبا إلى جنب مع ارتفاع أسعار السلع فى إنقاذ البلاد من أزمة مالية كبرى خلال فترة رئاسة كرستينا كرشنر من 2007 إلى 2015.

وتدخل صندوق النقد الدولى فى شؤون الأرجنتين ما لا يقل عن 21 مرة حتى الآن، حيث فرض إصلاحات معينة مقابل المساعدة، بحسب موقع بيى.

ولكن بسبب هذا التاريخ الطويل والمشحون، فإن الأرجنتينيين لا يثقون فى صندوق النقد الدولى ويعتقدون أنه مسؤول جزئياً عن الصراعات الاقتصادية، ومن الناحية السياسية، سيواجه مايلى صعوبة بالغة فى إقناع السكان ببرنامج آخر لصندوق النقد الدولى، حتى لو كانت بعض السياسات التى يدافع عنها هى تلك التى من المرجح أن يطلبها صندوق النقد الدولى.

ومقابل هذا، تحركت الصين فى الماضى لتعزيز احتياطيات الأرجنتين المتضائلة. ومن بين الأدوات الممكنة بنك التنمية الجديد الذى أنشأته دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) لدعم مشاريع التنمية، ولكن بنك التنمية الجديد لم يُطلَب قط لمساعدة أى بلد يمر بضائقة مالية، ولا يزال البنك يديره الصينيون وترأسه الرئيسة البرازيلية السابقة ديلما روسيف، إضافة إلى ذلك، لدى الصين مصالح فى الأرجنتين، ولا سيما فى قطاع المعادن، وقد تكون البلاد على استعداد لتجاهل تصرفات مايلى المعادية للصين خلال الحملة الانتخابية لصالح توفير التمويل الذى تشتد الحاجة إليه.

ومن الواضح أن التمويل سيأتى بشروط، خاصة فيما يتعلق بقطاعات المعادن الحيوية مثل استخراج الليثيوم، إذ أن الأرجنتين هى رابع أكبر منتج لليثيوم فى العالم.

دروس من التاريخ.. المحنة بدأت بالابتعاد عن الزراعة

يعكس الانتصار الساحق الذى حققه خافيير مايلى، وهو خبير اقتصادى يمينى متطرف غير مشهور، كرئيس للأرجنتين، رفض الناخبين للسياسات الفاشلة التى انتهجتها البلاد فى الماضى.

بدأت أزمة الأرجنتين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما اندفعت البلاد، تحت قيادة خوان دومينغو بيرون، نحو التصنيع والتحديث، بحسب موقع بيى.

وسعى بيرون إلى إبعاد اقتصاد البلاد عن الاعتماد على الزراعة إلى حد كبير، والذى كان يتعرض بشكل مفرط لتقلبات دولية فى أسعار السلع الأساسية، ونحو التصنيع باستخدام أى وسيلة، مثل الحمائية والائتمان المدعوم لقطاعات مختارة، إلى جانب الإنفاق الحكومى المستهدف على الرعاية الاجتماعية للقطاعات السكانية المفضلة.

وأنشأ بيرون أيضاً تدابير تضمن حماية العمال فى الشركات الصناعية الحضرية الجديدة، فضلاً عن العديد من الشركات المملوكة للدولة.

وفى نمط تكرر على مدى عقود عديدة، أدى تفعيل هذه السياسات بين عامى 1946 و1955 إلى زيادة عجز ميزانية الأرجنتين، وديونها الخارجية، وبروز نقاط الضعف فى ميزان المدفوعات، مما أرسى الأساس لدورات الازدهار والكساد فى المستقبل.

وعندما اضطرت البرازيل إلى خفض قيمة عملتها فى عام 1999، أدى ثبات سعر التعادل فى الأرجنتين مع الدولار إلى تفاقم افتقارها إلى القدرة التنافسية، الأمر الذى أدى إلى إضعاف وضعها الاقتصادى الهش بالفعل، وفى عام 2001، عانت الأرجنتين من أسوأ أزمة مالية فى العصر الحديث، وتضمنت الأزمة عجزاً معقداً عن سداد الديون، وانهيار النظام المصرفى، وركوداً عميقاً، وبحلول عام 2003، كانت التوقعات قد تحسنت بشكل ملحوظ نتيجة لارتفاع أسعار السلع الأساسية فى الأسواق الدولية.

خلال أسوأ الاضطرابات فى عام 2001، أصبحت الأرجنتين مشهورة ببابها الدوار الذى استقبل خمسة رؤساء فى 12 عاما فقط، وتسلم الرئاسة نستور كيرشنر فى عام 2003 بعد فوزه فى الانتخابات، وخلال فترة وجوده فى منصبه، حققت الأرجنتين معدل نمو بلغ فى المتوسط نحو 8.5 فى المائة سنويا، مدفوعا بارتفاع أسعار السلع الأساسية فضلا عن بعض الإصلاحات المحلية.

وفى عام 2007، تم انتخاب زوجة نستور كيرشنر، كريستينا كيرشنر، رئيسة للبلاد، وكان نيستور قد خطط للعودة إلى السلطة، لكنه توفى فى عام 2010، قبل عام واحد من إعادة انتخاب كريستينا لولاية ثانية.

أصبحت الفترة التى قضتها كريستينا كيرشنر فى السلطة، من عام 2007 حتى عام 2015، السمة المميزة لما يعرف الآن باسم الكيرشنرية، وهى مزيج من التدخلات الحكومية المخصصة فى عمل الأسواق - بما فى ذلك تحديد أو تجميد أسعار معينة - والتلاعب بإحصاءات الأرجنتين، لا سيما مع بيانات التضخم الرسمية، وقد شهدت فترة ولايتها انعدام المسؤولية المالية وفضائح الفساد.

وتمكنت الأرجنتين من تجنب أزمة مالية كبرى خلال فترة وجودها فى منصبها، بفضل ارتفاع أسعار السلع الأساسية والاستثمارات من الصين، لكنها ظلت عرضة للأزمات.