على مدار السنوات الطويلة الماضية، ارتكزت الاستراتيجية الأمنية لإسرائيل على إجهاض محاولات إيران لامتلاك سلاح نووي، واعتبار ذلك مسألة تهديد وجودى بالنسبة لها، ليس لأن طهران قد تتمكن من إلقاء قنبلة ما عليها، ولكن لأن هذا الوضع المُهدِّد قد يسلبها أهم إنجاز حققته فى تاريخها، وهو التحول إلى واحدة من الحاضنات الرئيسية للابتكار التكنولوجى فى العالم.
عاشت تل أبيب فى ظلال الخوف من تغير جذرى فى ميزان القوى الإقليمى من شأنه أن يضرب جناحى نهضتها التقنية، وهما المستثمرون الغربيون، والعقول المهاجرة إليها، إذ قد يؤدى التهديد النووى الإيرانى إلى تردد المستثمرين، وانعكاس اتجاه هجرة المواهب إلى الخارج، وفقًا لدانييل صموئيل سينور المؤلف المشارك لكتاب Start-Up Nation الذى يسرد قصة التحول الاقتصادى لإسرائيل.
والتكنولوجيا بالنسبة لإسرائيل ليست مجرد قطاع اقتصادى مهم برغم أنها ساهمت بنسبة 30% من نمو الناتج المحلى خلال السنوات الخمس الأخيرة، وقادت صادراتها البلاد من العجز إلى فائض الميزان التجارى ورفعت متوسط الدخل، بل أيضا لأنها قطاع مفتاحى بوسعه تزويد قطاعات عديدة أخرى بالنمو المباشر كالزراعة والرعاية الصحية والتعليم والروبوتات الصناعية والعسكرية، والأهم من ذلك كله: الأمن والسلاح والتجسس.
بشكل ما تحققت المخاوف الإسرائيلية عقب هجوم 7 أكتوبر الذى شنته حماس، والذى أيقظ على نحو صارخ المخاوف الكامنة تجاه استقرار هذا الكيان، وأعاد للواجهة الحقائق التى جرى طمسها لسنوات عن كونها دولة احتلال تعيش بقوة السلاح وسط محيط من الشعوب التى تؤمن بحقها فى الأرض، وتنظر الفرصة للأخذ بثأرها.
ومع ذلك، كان مدهشًا الانحياز المعلن الذى أبدته شركات تكنولوجيا أمريكية عملاقة لإسرائيل رغم الحملة الوحشية التى رد بها الجيش الإسرائيلى على غزة، إذ لم يكن من المنطقى أن تضحى تلك الشركات بالأسواق العربية التى تحتضن 400 مليون مستهلك، من أجل إسرائيل ذات التسعة ملايين نسمة.
التفسير الجزئى لهذا الانحياز، هو أن الأمر لا يرتبط بالاستهلاك– والذى يصعب أصلًا على العرب الاستغناء عنه فى ظل فقرهم التكنولوجى وصعوبة إيجاد البدائل- بل بالإنتاج نفسه. إذ تعد جوجل، وفيسبوك، ومايكروسوفت، وإنتل وسيسكو من بين أكثر من 300 شركة متعددة الجنسيات فتحت مرافق للبحث والتطوير فى إسرائيل، واعتمدت عليها فى مسألة الإبداع والابتكار للمنتجات الجديدة.
ولذلك، من المفيد أيضًا الاطلاع على ملامح تلك النهضة التقنية التى حققتها إسرائيل، وكيف خلقت لنفسها هذا الوضع المتفوق، وما إذا كان محيطها المتخلف قد تتوافر له هذه الفرصة ذات يوم.
نهضة تبدأ من «الرى بالتنقيط»
وفقًا لصحيفة «تايمز أوف إسرائيل»، فإن الافتقار إلى الموارد الطبيعية (النفط والمعادن وحتى المياه) دفع تل أبيب للتركيز على الزراعة ومحاولة تطوير محطات الرى بالتنقيط وتحلية المياه (وهى محاولات أفضت إلى تقنيات تباع الآن على مستوى العالم).
الحروب المتعددة أيضًا دفعت الجيش الإسرائيلى إلى تطوير تقنيات متطورة تغلغلت مع الوقت فى المجال المدني، وكانت الأساس الذى بنى عليه المشهد التكنولوجى المزدهر فى إسرائيل.
استفادت إسرائيل أيضًا من موجات الهجرة الضخمة التى وفرت لها مزيجًا من الثقافات والعقول.
واستفادت إسرائيل أيضًا من «أموال الخارج» سواء كانت من اليهود فى الشتات أو من المساعدات الأمريكية.
التضخم المفرط الذى شهدته إسرائيل فى أوائل الثمانينات (عقب هزيمة أكتوبر من مصر)، أجبر البلاد على خفض الدين العام، والحد من الإنفاق الحكومي، وبدء خصخصة الشركات المملوكة للحكومة، وخلقت الخصخصة صناعة تنافسية واستمرت حتى التسعينيات.
وفى الوقت نفسه، نفذت الحكومة الإسرائيلية برنامجًا لتحرير الاقتصاد وفتح الأسواق الإسرائيلية أمام الواردات ورفع القيود المفروضة على العملة، لتصبح جزءًا من الاقتصاد العالمي.
طفرة الإنترنت
فى التسعينيات، أنشأت الحكومة الإسرائيلية برنامج «يوزما»، الذى ساعد فى تأسيس صناديق استثمار محلية تستثمر فى التقنيات الإسرائيلية المزدهرة.
وبعد ذلك، أدى ازدهار الإنترنت إلى كسر الحواجز الجغرافية، وازدهرت ريادة الأعمال الإسرائيلية.
ثم جلبت موجة الهجرة فى التسعينيات أكثر من 900 ألف مهاجر جديد، كثير منهم مهندسون وأساتذة جامعيون وعلماء من الاتحاد السوفييتى السابق، وجميعهم غذوا المشهد التكنولوجى الناشئ فى إسرائيل بالمهارات المهنية التى اشتدت الحاجة إليها.
ويقول شاول سينجر، المؤلف المشارك لكتاب Start-Up Nation إن الإنجاز الرئيسى للاقتصاد الإسرائيلى هو «أننا انتقلنا من كوننا دولة فقيرة وضعيفة للغاية وصغيرة، قبل 70 عامًا، إلى قوة ابتكارية، معروفة عالميًّا كمركز للشركات الناشئة والابتكار».
وقال إن إسرائيل لا تمتلك «أعلى كثافة من الشركات الناشئة فى أى بلد فى العالم» فحسب، بل إن «النظام البيئى للشركات الناشئة فى إسرائيل يواصل النمو، ويجذب المزيد من الاستثمارات والشركات الكبيرة من جميع أنحاء العالم.
ويوجد فى إسرائيل حاليًا أكثر من 4000 شركة ناشئة فى مجال التكنولوجيا النشطة، وهو معدل أعلى من أى دولة أخرى غير الولايات المتحدة، وفقًا لبيزنس إنسايدر.
هل يفعلها العرب؟
تعتبر إسرائيل رائدة على مستوى العالم من حيث الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى (الأعلى فى العالم)، وهو أمر يفتقد فى دول عربية عديدة إما فقيرة أو تعطى الأولوية لشؤون أخرى.
ومع ذلك، فإنه حتى الدول العربية (خاصة فى الخليج) التى تتوافر لها الأموال الطائلة، وتسعى لنهضة تقنية قد لا تنجح فى مساعيها بسهولة، إذ يتطلب الأمر ما هو أكثر من المال، وما هو أكثر حتى من «ثقافة ريادة الأعمال».
وفقًا لدانييل صموئيل سينور، تتميز إسرائيل بأنها راع جيد لـ”بذور الابتكار»، وهو ما يعنى أن يكون هناك تسامحًا مع التفكير والتجريب، وهو أمر لا يتوفر فى دول الخليج.
يشير سينور أيضًا إلى دمج المجاهرين بصفته شيء تجيده إسرائيل، بينما لو استقدمت دولة خليجية ما أكاديميين على أعلى مستوى من العالم وكتبت لهم شيكات بمبالغ كبيرة، فإن مجرد معاملتهم بشكل تمييزى «مواطنين من الدرجة الثانية» سيخفف حماسهم للمستوى الأدنى.
ويعترف سينور بوجود هذا التمييز فى إسرائيل ضد العرب، لكنه يشير أيضًا إلى أن عرب إسرائيلى شكلوا جزءًا من النجاحات التقنية لبلاده بما يمتلكونه من ابتكار وروح مبادرة.
من المهم أيضًا الإشارة إلى دور الجيش الإسرائيلى المختلف بشكل واضح عن جيوش المنطقة الأخرى، إذ يوصف بأنه «جيش من رواد الأعمال أكثر من أى جيش آخر».
ومن المعروف أن العديد من رواد الأعمال والمبتكرين اللامعين فى إسرائيل يخرجون من القوات الجوية، ومن الفروع التقنية لجيش الدفاع الإسرائيلي.
وفى ظل الخدمة العسكرية الإلزامية، خصص الجيش الإسرائيلى وحدات عالية التقنية يتم من خلالها حث المجندين ذوى الخبرة فى مجال الكمبيوتر باستمرار على التوصل إلى أفكار مبتكرة فى تخصصات مثل أمن الكمبيوتر والتشفير والاتصالات والحرب الإلكترونية.
ويقول البروفيسور نيرون هاشاى من كلية إدارة الأعمال بالجامعة العبرية: «يمكّن الجيش الشباب فى وحدات معينة من اكتساب المهارات التكنولوجية، وإدارة مشاريع تكنولوجية كبيرة فى سن مبكرة للغاية، حيث يحتاجون إلى الارتجال من أجل الحصول على حلول سريعة».
وبمجرد العودة إلى العالم الحقيقي، يستخدم العديد من الخريجين العسكريين الخبرة المكتسبة حديثًا لإطلاق شركاتهم التكنولوجية الناشئة.
