بعدما أعلن البنك المركزى فى آخر بيان للجنة السياسة النقدية عن عدم وصول التضخم لذروته حتى الآن وما أرسله من إشارات توحى باستمرار نهج تشددى والمزيد من رفع أسعار الفائدة، يرى خبراء أن هناك احتكاكًا غير مقصود بين أهداف السياسة المالية والنقدية، ففى حين يرفع البنك المركزى الفائدة للسيطرة على التضخم تتكبد الموازنة العامة للدولة مع كل رفع %1 ما بين 32 70 مليار جنيه، حسب تصريحات لوزير المالية.
حلل خبراء مصرفيون المعضلة التى يشهدها الاقتصاد المحلى حاليًا، حيث يظل بين مطرقة رفع الفائدة للسيطرة على التضخم، وسندان زيادة العبء على الموازنة العامة للدولة.
واقترح الخبراء عدة حلول من ضمنها السيطرة على استقرار سعر الصرف على المدى المتوسط لخفض التضخم، وعدم التحرير وكذلك ضم المزيد من الاقتصاد الموازى لنظيره الرسمي، واستكمال الطروحات من أجل زيادة إيرادات الدولة من الضرائب وتخفيف العبء عن الموازنة العامة.
وتتصاعد حالة عدم اليقين بخصوص استقرار أسعار الصرف على المدى المتوسط والقريب، خاصة مع اقتراب موعد مراجعة صندوق النقد الدولى سبتمبر المقبل، وفى ظل تلك الأوضاع اتخذ البنك المركزى نهجًا واضحًا فيما يتعلق برفع أسعار الفائدة للسيطرة على الأسعار، وقرر الرفع بنسبة 1% فى اجتماعه الأخير 3 أغسطس، ليصل سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزى إلى %19.25، %20.25، و%19.75 على الترتيب.
كما تم رفع سعر الائتمان والخصم بواقع 100 نقطة أساس ليصل إلى %19.75 وتعتبر هذه هى المرة الثانية التى يرفع فيها البنك المركزى الفائدة هذا العام بعدما قرر الرفع بنسبة %2 فى اجتماع شهر مارس الماضي.
قال محمد عبدالعال الخبير المصرفى إن الهدف الرئيسى للسياسة النقدية يكمن فى السيطرة على معدلات التضخم، موضحًا أن ذلك الهدف يتحقق شريطة التنسيق الكامل بين السياستين المالية والنقدية.
وأفاد عبدالعال أن الوقت الحالى يشهد احتكاكًا غير مقصود بين أهداف السياسة المالية والنقدية، مفسرًا أن طرح المزيد من أدوات الدين لسد عجز الموازنة يدفع للمزيد من معدلات التضخم.
وأضاف عبد العال أن البنك المركزى يرفع الفائدة للسيطرة على الأسعار، بينما تمثل تلك الزيادة عبئاً على وزارة المالية، إذ تتكبد عوائد مرتفعة مما يعمق من عجز الموازنة.
وأشار إلى أن التضخم المحلى ليس ناتجًا عن زيادة فى جانب الطلب، وإنما نتيجة لصدمات العرض وارتفاع تكلفة السلع المستوردة نتيجة انخفاض قيمة العملة المحلية.
وأوضح أن السيطرة على سعر الصرف يؤدى على المدى المتوسط إلى خفض نسبى فى أسعار السلع، وخفض معدلات التضخم، مما يدفع البنك المركزى لخفض الفائدة مرة أخرى، وبالتبعية تنخفض تكلفة تمويل عجز الموازنة.
وذكر أن البنك المركزى فى اتباعه لسياسة التشديد النقدى للسيطرة على معدلات التضخم لابد أن يأخذه فى الاعتبار مجموعة من الشروط، أولها السيطرة على التخفيض فى قيمة العملة المحلية، واستقرار سعر الصرف، فحتى مع رفع أسعار الفائدة يظل الجزء الأكبر المؤثر هو تحرك أسعار الصرف.
وتوقع أنه لا يوجد تعويم آخر فى القريب العاجل، معللًا ذلك أن الفجوة التمويلية من العملة الخضراء مازالت قائمة.
وأوضح أن أى تحريك فى سعر الصرف سيدفع السوق الموازى إلى امتصاص تلك الزيادة، ويرتفع غير الرسمى مرة أخرى، ثم يبقى الحال على ما هو عليه.
وتابع أنه فى حالة توافر سيولة دولارية مناسبة فيما بعد يستطيع متخذو القرار القيام بتخفيض العملة، متسائلًا: «كيف يمكن اتخاذ قرار بتخفيض آخر فى قيمة العملة فى ظل عدم توافر دولارات للإفراج عن السلع الأساسية المستوردة فى الموانئ؟».
وفى السياق ذاته قال أحمد السيد أستاذ الاقتصاد والتمويل إن توجهات السياسة المالية الآن لا تركز على السيطرة على عجز الموازنة بقدر ما تركز على استهداف ابقاء الاقتصاد فى وضعية «التشغيل».
وأضاف «السيد» أن هناك دعماً لبرامج الحماية الاجتماعية التى ارتفعت بشكل كبير خلال الموازنة الأخيرة والحالية لمحاولة استيعاب آثار الضغوط التضخمية الشديدة التى أثرت على قطاع كبير من المواطنين.
وأضاف «السيد» أن زيادة برامج الدعم أوصى بها صندوق النقد من الأساس، لأن الجميع يعلم أن كُلفة الاصلاحات الاقتصادية ستكون كبيرة فى السنوات الأولي، ويمكن بسهولة التأكد من ذلك من الموازنة العامة لعام 2024-2023 والتى شهدت ارتفاعاً فى معدل العجز إلى %6.9 بعد أن كانت الحكومة تستهدف %6.4 فقط.
وأشار إلى أن مخصصات دعم الغذاء قفزت بأكثر من %40 فى الموازنة الحالية لتصل إلى 128 مليار جنيه، بالإضافة إلى الارتفاعات الأخرى فى برامج الدعم وزيادة الحد الأدنى للأجور وزيادة حد الاعفاء الضريبى وغيرها من البرامج.
وبناء على ما سبق أكد أن الحكومة تعطى رسائل بأن الظروف الاستثنائية ستجعلنا نحيد بعض الشئ عن برنامج تخفيض عجز الموازنة، لحين استقرار الأوضاع وعودة مستويات أسعار السلع فى الأسواق الخارجية لسابق عهدها.
وبسؤاله عن تحوط وزارة المالية ضد الارتفاعات فى سعر الفائدة وتكلفتها، عَّلق أحمد السيد أنه بالتأكيد هذه المعدلات كانت غير مخططة، موضحًا أنها ستؤثر على استهداف عجز موازنة بمعدل %4 بحلول 2026-2027، والتى تم الإعلان عنها سابقا.
وتابع أنه بالرغم من أنه يبدو نظرياً عدم وجود بدائل سريعة إلا بالمزيد من الاستدانة من الأسواق المحلية لأن التوجه للأسواق الخارجية فى الوقت الحالى صعب فى ظل ارتفاعات سعر الفائدة عالمياً، إلا أن هناك خطوات أخرى قادرة على تحقيق وفرة للموازنة العامة من أجل السيطرة على الزيادات فى فاتورة الدعم.
و أكمل أن الخطوات يأتى فى مقدمتها التركيز على ضم المزيد من الاقتصاد غير الرسمي، والذى يهدر ايرادات تبلغ قيمتها نحو 1.2 تريليون جنيه سنوياً بسبب عدم ضمه للمنظومة الرسمية للضرائب، حيث يقدر بنصف الاقتصاد المصرى على أقل تقدير، وبالتالى فوضع أهداف زمنية لضم %10-5 منه سيكون كفيلًا بإضافة ما يقرب من 120 مليار جنيه لايرادات الدولة سنوياً.
وذكر أنه من المهم تركيز الدولة على إعادة الاهتمام بالأصول غير المستغلة والتى تقدر بنحو 3 تريليون جنيه داخل الاقتصاد المصري، مفسرًا أن تلك الأصول هى التى تمتلكها الدول والجهات التابعة لها ولا يتم استغلالها بصورة اقتصادية.
وأكمل أن هناك تجارب ناجحة فى إيطاليا وفرنسا تم استخدام عوائد استغلال الأصول المهملة فى تخفيض حجم الدين المحلى بنسب تصل إلى %30.
وأشار إلى ضرورة التركيز على برنامج ملكية الدولة والتخارج من الأصول المملوكة لها، بما يضمن توفير حصيلة إضافية للموازنة العامة، وكذلك تحقيق الحياد التنافسي.
وفى إشارة إلى حجم التكلفة التى تتكبدها المالية جراء رفع البنك المركزى لأسعار الفائدة، قال أحمد السيد إن تقديرات الحكومة إن كانت فى السابق تشير إلى أن كل %1 رفع يكبد الموازنة العامة للدولة نحو 30 مليار جنيه، إلا أن الفترة الأخيرة ارتفعت تقديرات الحكومة إلى 70 مليار جنيه لكل %1 زيادة فى معدلات الفائدة.
وأكد أن الزيادة التى تمت فى أسعار الفائدة خلال العام الماضى والجارى حتى الآن والتى تقدر بنحو %11 حملت الموازنة العامة ما يتراوح بين -330 770 مليار جنيه، وهو يعد قفزة كبيرة إذا اخذنا فى الاعتبار أن إجمالى إيرادات الدولة لا تتجاوز 2.1 تريليون جنيه فى أفضل الأحوال.
واختتم السيد بأنه إيًا كانت التقديرات الأدق يظل ارتفاع الفائدة عامل ضغط كبير على موازنة مُثقلة بالفعل بتكلفة الدين، والتى تستنزف جل إيرادات الموازنة من الضريبية (1.12 تريليون جنيه)، مع ضغوط بسبب معدلات التضخم والأزمات العالمية، معتقدًا أن البنك المركزى أصبح أكثر تفهمًا لهذا البعد، بعد أن تم رفع الفائدة %3 فقط خلال 2023 مقارنة بنحو %8 رفع خلال 2022.
