أدت الأزمات التى ضربت الأسواق العالمية مؤخرا، بدءًا من جائحة كورونا مرورًا بسلاسل الإمداد وليس انتهاء بالحرب الروسية الأوكرانية، إلى احتدام الصراع بين البنوك المركزية والتضخم.
وقال خبراء مصرفيون - فى تصريحات خاصة لـ "المال" -إن أبرز أسلحة البنك المركزى فى مواجهة التضخم، رفع الفائدة، فيما يرى البعض الآخر أن القرار لن يحجم معدلات التضخم، فهو ليس وليد الطلب، بل ناجم عن الفجوة بين السيولة الدولارية ومتطلبات السوق للعملة الأجنبية.
وأكد الخبراء أن قطاعى ائتمان الشركات والعقارى سيشهدان تباطؤًا خلال الفترة المقبلة، مدفوعًا بارتفاع تكلفة الإقراض، على الناحية الأخرى ستنموا محافظ الودائع، وقروض الأفراد.
وقررت لجنة السياسة النقديـة للبنك المركــزى المصـرى فى اجتماعها المنقعد فى 3 أغسطس الجارى رفع سعرى عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزى بواقع 100 نقطة أساس ليصل إلى %19.25، %20.25 و%19.75، على الترتيب.
كما تم رفع سعر الائتمان والخصم بواقع 100 نقطة أساس ليصل إلى %19.75.
والسؤال هنا ما هى القطاعات الرابحة والخاسرة من رفع الفائدة، وهل ستنجح سياسة التشديد النقدى المتبعة فى السوق المحلية فى محاصرة معدلات التضخم عند مستويات منخفضة، "المال" تجيب خلال السطور التالية على تلك الأسئلة.
بداية، قالت منى بدير محلل اقتصاد كلى إن رفع سعر الفائدة فى الوقت الراهن يشكل ضغطاً كبيراً على الاقتصاد، إضافة إلى تراجع النشاط الاقتصادي، بشكل خاص إن رفع سعر الفائدة يرجع إلى وجود معدلات تضخم كبيرة أثرت على القوى الشرائية لكثير من الأفراد، وأن بعضهم لديه القدرة على تعويض ذلك من خلال الاقتراض من البنوك حتى وإن كانت الفائدة مرتفعة.
على مستوى الشركات لن يتراجع ائتمان الشركات لكن سيتباطأ نموها مدفوعا بحاجة العديد من الشركات للتمويل البنكى لتجديد دورة نشاطها، وتكون مضطرة للحصول على القروض بالفائدة المرتفعة فى الوقت الراهن، مما يرفع تكلفة الإنتاج على الشركات، وأسعار السلع على المستهلك.
وتوقعت أن أكثر القطاعات الأكثر استفادة وربحًا من قرار رفع الفائدة على الجنيه هو القطاع المصرفي.
لكن منى بدير ترى أن القطاعات الأكثر تضررًا من القرار التى تعمل بنشاط الاقتصاد الحقيقى والقطاعات المنتجة وفى مقدمتها النشاط الصناعي، لاسيما أن القرار يتزامن مع الأزمة التى يمر بها السوق من قيود الاستيراد، وعدم حصول أصحاب المصانع على المواد الخام نتيجة نقص السيولة الدولارية، مما يجعل القطاع يعانى من مشكلات مركبة.
هل تنجح مستويات الفائدة الحالية فى تحجيم الطلب ؟
قالت منى بدير إن التضخم فى مصر ليس وليد الطلب، وأن رفع أسعار الفائدة يكون أكثر فعالية فى تحجيم التضخم الناشئ عن الطلب، إلا أنه فى السوق المحلية يرجع إلى ضعف العملة المحلية، وعدم توافر السيولة الدولارية، وقيود الاستيراد، ونقص عدد من السلع داخل السوق.
وترى أنه إذا لم يسبق رفع الفائدة حل المشكلة من جذورها، والمتمثلة فى توفير السيولة الدولارية اللازمة لتوفير السلع، ودعم العملة المحلية، فعلى الأغلب لن يكون له تأثير كبير على معدلات التضخم، وترجح أن التوقعات الخاصة بالتضخم مرهونة بتخفيض قيمة العملة والتغيرات فى السلع المحددة إداريًا مثل البنزين والكهرباء.
هل سعر الفائدة مغرٍ للمدخرين؟
ترى منى بدير أن سعر الفائدة فى الوقت الراهن غير جاذب للمدخرين، فمستويات الفائدة مقارنة بأسعار التضخم بالسالب، إذا افترضنا أن الوعاء الادخارى عند مستويات %25، فإن معدلات التضخم عند %40، لاسيما أن الرؤية مازالت غير مستقرة حول قدرة الجنيه على اكتساب بعض القوى أمام الدولار الأمريكي، إضافة إلى أن العوائد على الأصول الأخرى من الذهب والدولار والعقارات أكثر جاذبية كأنسب وسيلة للادخار مقارنة مع العوائد الممنوحة من البنوك عبر الأوعية الإدخارية.
الرفع سيطال مبادرات التمويل العقارى
وقال محمد سمير، خبير التمويل العقارى وعضو مجلس إدارة بيت مصر للخدمات العقارية، إن تأثير رفع الفائدة سيكون سلبًا على القطاع العقاري، لاسيما أنه سيقلل فرص نمو التمويلات الممنوحة للقطاع العقاري، التى تواجه تحديات كبيرة فى الوقت الراهن، مثل نظام الملكية العقارية، وارتفاع أسعار مواد البناء، أسعار العقارات، مما يلقى بظلاله سلبًا على مبادرات البنك المركزي.
وأوضح أنه على الرغم من أن مبادرات البنك المركزى للتمويل العقارى مدعمة، إلا أن المطورين العقاريين يحصلون على تمويلات بتكلفة إقراض عالية ما يدفعهم إلى رفع سعر الوحدة التى تخطط الحدود المعلنة من البنك المركزى لسعر الوحدة 2.5 مليون جنيه، بالتالى تقل عدد فرص وجود وحدات تناسب شروط التمويل العقاري.
وبحسب تقرير حصلت عليه "المال" الشهر الماضي، فإن البنوك والشركات ضخّت تمويلات بقيمة 60.07 مليار جنيه، ضمن مبادرة التمويل العقارى لمحدودى الدخل لنحو 513.600 ألف عميل حتى نهاية يونيو الماضى.
ومنحت البنوك 57.740 مليار جنيه موجهة إلى 494.492 ألف عميل لتستحوذ على نسبة %96.1 من المبادرة، بحسب تقرير حديث صادر عن صندوق الإسكان الاجتماعى ودعم التمويل العقارى حصلت عليه جريدة «المال».
وأضاف التقرير أن الشركات ضخّت نحو 2.333 مليار جنيه ضمن المبادرة لنحو 19.108 ألف عميل لتستحوذ على %3.9 من المبادرة.
وأطلق البنك المركزى المصرى مبادرة للتمويل العقارى فى فبراير 2014 بفائدة مدعمة متناقصة لشريحتى محدودى ومتوسطى الدخل بفائدة تتراوح من 5 إلى %7.
وتولى صندوق ضمان التمويل العقارى توفير الوحدة السكنية لشريحة محدودى الدخل، ويقوم بتحديد سعر الوحدة السكنية طبقًا لتكاليف إنشائها.
وأصدر الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، بنهاية نوفمبر الماضي، قرارًا ينص على تولّى وزارة الإسكان متابعة وتحمُّل تكلفة فارق سعر الفائدة وتعويض البنوك عن فارق الأسعار السائدة فى السوق لمبادرتى التمويل العقاري؛ الأولى بفائدة %8 متناقصة، والثانية %3حيث تستمر المبادرتان مع خفض الحدّ الأقصى لدعم مبادرة الـ%8 إلى 15 مليار جنيه، واستمرار الحد الأقصى بمبادرة %3 عند 100 مليار.
المطورون سيرفعون الفائدة من 30 - %50
وافترض محمد سمير أن العميل سيحصل على وحدة ثمنها مليون جنيه بمتوسط فائدة بالقطاع المصرفى للإقراض %19، أى أن الفائدة على الوحدة 190 ألف جنيه سنويًا، فى حال حصول العميل على قرض بأجل 10 سنوات، سيكون الفائدة فقط 1.9 مليون جنيه إضافة إلى ثمن الوحدة، لتصبح إجمالى ثمنها 2.9 مليون.
وأشار إلى أن الفائدة المرتفعة تدفع العميل سواء كان فردًا أو مؤسسة للكثير من المخاوف من التعثر فى السداد، وفى حالة المطورين العقارين سيكونوا مضطرين إلى رفع تكلفة العقار من 30 : %50 على عكس المتعارف عليه سابقًا والتى كانت بين 10 إلى %20.
وأكد "سمير" أن التأثير السلبى لرفع الفائدة يستمر حتى نهاية العام الجاري، وقد يصل إلى منتصف العام المقبل، إلا إذا وجدت الدولة حلولًا خارج الصندوق لدعم معدلات الفائدة على التمويل العادي، ولم تعول فقط على مبادرات البنك المركزي.
شركات التأمين والبنوك أكبر الرابحين من ارتفاع الفائدة
من جانب آخر، يرى محمد البيه الخبير المصرفى أن البنك المركزى يحدد سعر الفائدة على الرؤية المستقبلية للتضخم، لاسيما أنه يقوم بدراسة كافة الأسعارالخاصة بالأغذية ، ومواد البناء العالمية، ومدخلات الإنتاج التى تستهلكها المصانع بصفة رئيسية والتى يتحكم فيها بشكل رئيس مكون استيراد خارجي، مما يكون لهم دور كبير فى تحريك الأسعار فى السوق المحلية.
وأشار إلى توقعات البنك المركزى حول استمرار أسعار التضخم فى التصاعد حتى منتصف العام المقبل، والتى من المحتمل أن يتخذ "المركزي" بعدها مسارًا نزوليًا فى يونيو المقبل.
وأوضح أن "المركزي" يهدف من مسار رفع أسعار الفائدة إلى تحجيم التضخم فقط، وليس كبحه تمامًا، فإن التضخم يشهد فى الوقت الراهن مستويات مرتفعة مقارنة مع أسعار الفائدة فى السوق.
ويرى "البيه" أن القطاعات المستفيدة من رفع الفائدة هى التى تمتلك معروضًا نقديًا كبير، فى مقدمتها شركات التأمين والبنوك، لأنه سيكون لديهم القدرة على ربطها فى أوعية ادخارية يستفيد من العائد عليها، على النقيض من ليس لديه سيولة نقدية كبيرة منها المصانع والتى فى حاجة إلى تعزيز السيولة لدعم توسعاتهم والحفاظ على الربحية التى تناسب التغيرات، وذلك من خلال الحصول على تمويلات من القطاع الرسمى
رغم ارتفاع الفائدة محافظ التجزئة ستزداد
وأشار "البيه" إلى أن الأفراد يتوجهون إلى البنوك فى أوقات مستويات التضخم المرتفعة نتيجة ارتفاع الأسعار مقارنة مع حجم الأموال المتاحة لديهم، مما يدفعهم إلى الاقتراض من البنوك، لتقسيط مستلزماتهم الحياتية، من سلع استهلاكية مثل السيارات أو تعليم أو زواج من خلال قروض مباشرة، أو من خلال استخدام بطاقات الائتمان.
وأشار إلى أن البنوك فى الآونة الأخيرة زادت من حملاتها لجذب المواطنين إلى استخدام كروت الائتمان لتقسيط المنتجات التى فى حاجة إليها.
على مستوى المشروعات الصغيرة والمتوسطة، يرى "البيه" أنهم فى حاجة كبيرة ومستمرة للتمويل حتى لو بسعر الفائدة مرتفع.
فيما يخص الشركات الكبرى، أشار إلى أنها تمتلك سيولة كبيرة تمنح لها حرية الاختيار بين العزوف عن الحصول على التمويل، أو تقليله، واكتفاء توسعاتها على قدر السيولة المتاحة لديها، حتى تعود معدلات الفائدة لسابقها.
على صعيد ودائع القطاع المصرفي، قال "البيه" إنه يتزامن مع الفائدة المرتفعة التى طرحتها البنوك الإقبال بصورة أكبر على إيداع أموالهم بالبنوك، مما يعزز نمو محافظ الودائع بالبنوك.
الحرب قائمة بين البنك المركزى والتضخم
وأشار محمد عبد العال الخبير المصرفى إلى إعلان البنك المركزى أن التضخم لم يصل بعد إلى ذروته، وفى ضوء مؤشرات التضخم الراهنة، متوقعًا استمرار الارتفاع على أساس سنوى فى النصف الباقى من العام الحالي.
ويرى "عبد العال" أن نسبة الارتفاع المتوقعةً تعتمد على مدى الزيادة فى أسعار السلع المستوردة أوالمدعمة نتيجة صدمات العرض، أما معدل التضخم الأساسى فيظل مستقرا أوبزيادة نسبية بوتيرة متناقصة.
رابحو اليوم هم خاسرو الأمس
وذكر أنه كان لابد للبنك المركزى أن يتصدى ويسارع باستخدام أسلحته لاحتواء هذا التضخم، وكبح جماحه، وعلى رأس تلك الاسلحة «رفع الفائدة» ولكن طالما الحرب قائمة بين "المركزى" والتضخم ، فمن المحتم أن يكون هناك على أرض الواقع مع كل تغير فى أسعار العائد ، "رابحون " ، لاسيما أن خاسرى اليوم هم رابحو الأمس.
وأوضح أن تغيرات أسعار العائد من المحتم أن يكون لها رابحون فى مقدمتهم عملاء المصارف من أصحاب الشهادات ذات الأسعار المتغيرة وأصحاب الودائع الزمنية الثابتة قصيرة الأجل، وأصحاب الحسابات الجارية ، والتوفير.
على الجانب الآخر، نجد أن قاعدة عملاء المصارف من شريحة المستفيدين من القروض الشخصية أو الاستهلاكية أو منتجات و خدمات التجزئة بكل أنواعها ، هم من أهم الشرائح المتضررة من ارتفاع أسعار الفائدة، سواء بسبب ارتفاع كلفة الاقتراض أو انخفاض نسبة الاقتراض إلى الدخل.
الفائدة تتناسب طرديًا مع عجز الموازنة
وأضاف "عبد العال" أما على صعيد الحكومة ممثلة فى وزارة المالية فهى الجهة الوحيدة التى تدفع ثمن مقاومة التضخم بشكل فورى وحاسم ، فكل رفع فى سعر الفائدة الرسمية يؤدى إلى رفع نسبى فى عجز الموازنة (خسائر) يقدر ويعادل نسبة الارتفاع فى الفائدة ومتوسط حجم العجز، أى أن رفع الفائدة يساهم بشكل غير مباشر فى زيادة عجز الموازنة.
أما بالنسبة للقطاع المصرفى، فيقول "البيه" إن البنوك تستطيع الاحتفاظ بمعدل هامش معقول ومتوازن بين تكلفة الأموال والعائد المحصل ، خاصة أنها يمكن لها استثمار فوائضها فى أذون خزانة ذات الآجال القصيرة وبأسعار عائد صافى جيدة وبدون مخاطر.
رجال الأعمال وسعر الفائدة
ويرى "عبد العال" أن رجال الأعمال من الشرائح التى تعتمد بشكل أكبر على المصارف فى تمويل أنشطتها، والتى تواجه انتقاصًا فى ربحيتها يعادل الارتفاعات فى الفائدة، كما يقلل ذلك من مركزها التنافسى وقدرتها الإنتاجية، وعلى العكس الشركات التى تعتمد على سيولتها الذاتية بشكل رئيسى فلن تتأثر كثيرا بتغيرات أسعار الفائدة.
وذكر أن قطاعات الشركات الكبرى الزراعية والصناعية تستفيد حاليا من مبادرة الحكومة التمويلية بسعر 11%فقط ، كما تتمتع الصناعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر بأسعار فائدة متميزة عبر مبادرات الجهاز المصرفى.
على مستوى تأثير سعر الفائدة على البورصة، قال "عبد العال" ليس من المتوقع أن تتأثر سلبًا بمتغير رفع الفائدة، مرجحا أن تستحدث بعض المحفزات البديلة التى يمكن أن تلعب دورا تعويضيا فى تنشيط وزيادة حجم التداول فى البورصة مثل نمو حركة تنفيذ برنامج الطروحات واستقرار سعر الصرف.
وتوقع أن يكون لرفع أسعار الفائدة صدى جيدا فى المستقبل القريب على تحفيز الاستثمار الأجنبى غير المباشر.
