فى عام 2018 ومع تجديد انتخابه رئيسا لتركيا عقب تعديلات دستورية كفلت له صلاحيات مطلقة فى الملف الاقتصادى، شن الرئيس رجب طيب أردوغان حربه الخاصة على أسعار الفائدة التى يؤمن تماما بمخالفتها لتعاليم الإسلام، فضلا عن كونها محفزا للتضخم ووسيلة «خبيثة» لسلب استقلال البلاد.
وعكس النظريات الاقتصادية السائدة، أرغم أردوغان صناع السياسة النقدية فى البلاد على خفض الفائدة - رغم التضخم المتفاقم - لتتراجع من حوالى ٪19 فى عام 2021 إلى %8.5 حاليا، مستهدفا بذلك تعزيز الإقراض للمصنعين واستغلال تراجع قيمة الليرة لتعزيز الصادرات وتحفيز الاستثمار المحلى لتحقيق النمو.
فى مغامرته تلك، اعتمد أردوغان على الوضع الجيد للهيكل الاقتصادى فى بلاده التى تعتمد على التصنيع بشكل كبير (التصنيع أسهم بنسبة %22 من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2021 مقابل %27 فى الصين و%23 فى ماليزيا)، كذلك قربها من أسواق غنية كدول الاتحاد الأوروبى والخليج (أوروبا تستقبل نصف صادرات تركيا)، وفقا لصحيفة فاينانشيال تايمز.
لكن، وعكس النمط التقليدى فى شرق آسيا، تعانى تركيا من عجز تجارى مزمن بدلاً من تحقيق فائض، وهى فى صناعاتها تعتمد كثيرا على المدخلات المستوردة ورأس المال الأجنبى، وبالتالى أدى التضخم وانخفاض الليرة إلى ضرب قدرة القطاع على الانتعاش.
وفى الأثناء، قاوم أردوغان التأثير السلبى لتراجع العملة عبر استنزاف الاحتياطيات الأجنبية لبلاده من أجل دعم الليرة، أو بناء التزامات تحوطية للمدخرين بالليرة حتى لا ينصرفوا إلى العملات الأجنبية.
فى المحصلة، حقق الاقتصاد التركى نموا ملفتا فى 2021 بنسبة %11 ثم بنسبة %5.6 فى 2022، لكنه فى المقابل سقط فى أعلى نسبة تضخم منذ 24 عامًا (فوق %80 فى أكتوبر 2022)، فى حين هوت قيمة الليرة فسجل الدولار الواحد أكثر من 23 ليرة حاليا مقابل 5 ليرات فى 2018.
لكن الرقم الأهم الذى أفضى بأردوغان إلى نهاية المغامرة، هو الاحتياطيات النقدية الأجنبية التى استخدمها كثيرا لشراء الوقت ومحاولة كسب الجولة تلو الأخرى، إذ انهار صافى الاحتياطيات من قرابة 30 مليار دولار فى 2018 إلى «سالب 150 مليون دولار» مؤخرا.
مع الوصول إلى هذه المحطة، أدرك اردوغان على ما يبدو أن ثمة أزمة مالية وشيكة ومحتملة للغاية، وهو دفعه للاستعانة بفريق اقتصادى ليبرالى عقب انتخابه مؤخرا، بغية إضفاء صبغة من الاستقلال والمؤسسية وسيادة القانون على هياكل حوكمة الاقتصاد، وبالتالى استعادة ثقة المستثمرين الأجانب الذين يشكلون ضلعا حيويا فى النموذج الاقتصادى التركى.
وعى أى حال، لم يكن من السهل على رجل كأردوغان الذى يصفه معهد كارنيجى بأنه «على قناعة تامة بأنه محق وأن معرفته تفوق بكثير معرفة غيره»، أن يقبل بهذا التحول لولا الوضع الاقتصادى المؤلم الذى بخر أوهام تحقيق المعجزات، وأرغمه على ابتلاع أول تصريحات وزير المالية الجديد ورجل وول ستريت، محمد سيمسك، بأن تركيا ليس أمامها سوى العودة إلى «العقلانية».
وزير من «ميريل لينش» ومحافظة من «جولدمان ساكس»
فريق من «وول ستريت» على رأس القيادة الاقتصادية الجديدة
أعلن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان عن حكومة جديدة بالكامل تقريبا، إذ لم يتبق من الوزراء القدامى سوى وزيرى الصحة والثقافة والسياحة.
ورغم المفاجآت التى حظى بها التشكيل الجديد، خاصة فى حقيبتى الخارجية والدفاع، إلا أن حقيبة المالية حصلت على الانتباه الأكبر بعودة محمد شيمشك إليها، رغم إقالته منها قبل 5 سنوات على خلفية تعارض وجهات النظر مع أردوغان حول مسار الاقتصاد المفترض.
كذلك، حظى تعيين حفيظة غاية أركان كأول سيدة تحكم البنك المركزى، بانتباه المراقبين، كونها أيضا من أصحاب التاريخ فى «وول ستريت»، وهو ما يؤكد عزم أردوغان على استعادة المصداقية الدولية فى الملف الاقتصادى.
شيمشك.. تعليم بريطانى ومسيرة مهنية فى أمريكا
ولد شيمشك لعائلة كردية فى محافظة باتمان جنوب شرق تركيا، وتعلم التركية بعد أن ذهب إلى المدرسة، وأكمل دراسته الجامعية فى المدرسة الإمبراطورية العريقة للدراسات الإدارية (الملكية)، التى تأسست عام 1859، وقد تخرج فيها سياسيون رفيعو المستوى بمن فيهم الرئيس السورى السابق شكرى القوتلى.
أكمل شيمشك درجة الماجستير من جامعة إكستر فى المملكة المتحدة وبين عامى 1993 و1997 عمل كمحلل اقتصادى كبير فى سفارة الولايات المتحدة فى أنقرة، ثم عمل لفترة قصيرة فى الولايات المتحدة فى بنك UBS السويسرى ولاحقًا فى دويتشه بنك فى تركيا.
وأصبح شيمشك كبير الاقتصاديين الإداريين فى «ميريل لينش» ليغطى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، قبل أن ينتقل إلى وسط أوروبا وروسيا، وقد اختاره أردوغان لوزارة المالية لأول مرة عندما كان فى هذا المنصب.
ولاحقا اختلف مع أردوغان مع شيمشك فى السياسة الاقتصادية الواجب اتباعها، بعد أن شغل منصب وزير المالية بين عامى 2009 و2015، ثم استقال من هذا المنصب وعاد إلى عمله المالى الدولى.
وفى أول تصريح أدلى به بعد توليه المنصب الوزارى قال شيمشك: «لا يوجد خيار أمام اقتصاد تركيا سوى العودة إلى الأرضية العقلانية»، وهذا تصريح واضح بأن اقتصاد الدولة لم يكن فى السابق قائمًا على أرضية عقلانية.
حفيظة غاية.. امرأة من «جولدمان ساكس»
أصبحت حفيظة غاية إركان أول امرأة تتولى منصب رئيس البنك المركزى فى تركيا، وهى أيضًا خامس محافظ للبنك المركزى التركى فى 4 سنوات.
وتمتلك حفيظة مسيرة مهنية هائلة فى وول ستريت، حيث كانت مديرا سابقا فى «جولدمان ساكس» والرئيس التنفيذى المشارك فى بنك «فيرست ريبابليك».
وُلدت إركان فى تركيا وتخرّجت فى جامعة بوغازجى المرموقة فى إسطنبول، ونالت منحة لدراسة الدكتوراه فى برينستون الأمريكية، وانضمت عام 2005 إلى جولدمان ساكس كمعاونة ليتم تعيينها مديرة عام 2011.
وعملت لاحقا فى مصرف «فيرست ريبابليك» الأمريكى عام 2014، حيث تولت مناصب نائبة رئيس أولى وكبيرة مسؤولى الاستثمار ورئيسة مشاركة للمخاطر.
ورأى كثيرون فى حفيظة الوريثة المحتملة لمؤسس مصرف «فيرست ريبابليك» ورئيسه التنفيذى جيم هربرت لكنها غادرت البنك فجأة فى ديسمبر 2021.
وتم تعيين إركان رئيسة تنفيذية لشركة «غريستون» للتمويل العقارى فى يونيو 2022 لكنها استقالت فى ديسمبر من نفس العام، وأكدت الشركة حينذاك أن مغادرتها كانت «ودية» وأنها «مرتبطة بقرارها التركيز على فرص جديد فى قطاع المال».
ويقول محللون إن تعيينها قد يكون علامة على أن السياسة النقدية لتركيا ستعود إلى طبيعتها بعد سنوات من الفائدة المنخفضة للغاية.
وقالت سيلفا ديميرالب، أستاذة الاقتصاد فى جامعة كوتش بإسطنبول: «نظرًا لتدريبها فى جامعة برينستون وخبرتها رفيعة المستوى فى القطاع المصرفى الأمريكى، أفترض أن المركزى التركى سيعود إلى السياسات التقليدية».
وتتوقع ديميرالب رفع سعر الفائدة فى الاجتماع القادم للبنك المركزى، وقالت «إن رفع سعر الفائدة إلى مستوى حوالى %25 أو أعلى قد يكون خطوة أولى جيدة».
وقال تيموثى آش، كبير المحللين الاستراتيجيين للأسواق الناشئة فى بلوباى لإدارة الأصول، لـCNBC إن «الأسواق مسرورة بشكل مضاعف» بتعيين إركان رئيسة للبنك المركزى، وأكد أن كلاً من إركان وشيمشك سيشكلان «فريقًا من الدرجة الأولى».
أنقرة قد تضطر للجوء إلى صندوق النقد
صــافى الاحتياطيــات الأجنبيــة «تحت الصــفر»
لا تبدو مهمة الفريق الاقتصادى الجديد فى تركيا سهلة على الإطلاق فى ظل الوضع البائس الذى ستنطلق منه، خاصة فيما يتعلق باحتياطيات النقد الأجنبى.
قبل أسبوعين، كشفت بيانات رسمية أن صافى احتياطيات النقد الأجنبى للبنك المركزى التركى انخفض إلى ما دون الصفر للمرة الأولى منذ عام 2002، مسجلا سالب 151.3 مليون دولار فى 19 مايو الماضى.
الأوضاع المالية لتركيا وصلت إلى نقطة الانهيار، مدفوعة بمحاولات تجنب حدوث انخفاض كبير فى العملة التركية قبل الانتخابات التى جرت قبل أيام، ولم يعد أمام تركيا سوى بيع ذهبها أو ابتلاع الدواء المرير لانقلاب السياسة الاقتصادية بالكامل أو ربما القبول ببرنامج لصندوق النقد الدولى.
وتواجه تركيا مشاكل مالية من نوع خاص، إذ اقترض البنك المركزى التركى الكثير من العملات الأجنبية من البنوك التركية ومن الحكومات الأخرى، ثم أنفقت عملتها الأجنبية المقترضة للدفاع عن الليرة.
وبحسب تحليل “مجلس العلاقات الخارجية”، قد تجد تركيا نفسها غير قادرة على الوفاء بالودائع المحلية بالدولار، إذا طلب الأتراك استرداد أموالهم.
من جهتها، اعتمدت البنوك التركية على ودائع الليرة المحمية بضمان “سعر الصرف” لتمويل جزء كبير من طفرة الإقراض للمركزى قبل الانتخابات.
ويبدأ خطر تعرض تركيا للأزمة المالية بحاجتها إلى التمويل الخارجى.
وقد أدى ازدهار الائتمان إلى زيادة الواردات، وتغلب على أداء الصادرات القوى نسبيًا لتركيا، فانخفض عجز الحساب الجارى إلى أقل من 20 مليار دولار فى عام 2021، لكنه فى طريقه للوصول إلى ما يقرب من 60 مليار دولار فى عام 2023.
ولا توجد علامة فى البيانات التجارية على أن العجز سينتهى من تلقاء نفسه، إذ لا يزال نمو الواردات يفوق نمو الصادرات.
وتُعد تركيا نموذجا مثاليًا على كيف يميل سعر الصرف المستقر نسبيًا والتضخم المحلى المرتفع إلى تآكل القدرة التنافسية للبلد.
ويتطلب العجز الخارجى بحكم التعريف القدرة على الاقتراض من الخارج - أو الرغبة فى بيع أصولك الحالية لتغطية العجز.
وهذه هى المشكلة الثانية لتركيا، فهى غير قادرة على جذب التمويل الخارجى باستمرار.
ولا يرغب المستثمرون الأجانب ببساطة فى الاحتفاظ بأصول بالليرة عندما تكون أسعار الفائدة على الليرة منخفضة بشكل مصطنع وهناك خطر واضح يتمثل فى انخفاض قيمة الليرة.
وحتى وقت قريب، كان بإمكان تركيا الاقتراض من سوق السندات بالعملات الأجنبية، ولكن ليس بالحجم المطلوب لتغطية هذا العجز الخارجى الكبير بالكامل، حتى مع الدعم غير المباشر من بعض دول مجلس التعاون الخليجى لشراء السندات التركية.
وقد ارتفع الطلب على العملات الأجنبية فى تركيا إلى مستويات قياسية قبل 14 مايو بفعل توقعات الشركات والأفراد بأن الليرة التى فقدت %44 فى عام 2021 و%30 فى عام 2022، ستنخفض بعد الانتخابات وهو ما حدث بالفعل.
وانخفض صافى احتياطيات البنك بمقدار 2.48 مليار دولار فى الأسبوع المنتهى فى 19 مايو، إلى أدنى مستوى له منذ فبراير 2002، وقد انخفض بمقدار 27.7 مليار دولار منذ نهاية عام 2022.
وصفها بأنها «أداة استغلال» و«مصدر كل الشرور»
أردوغــــان.. هــل اســتسلم «عـــدو الفائــدة»؟
لطالما وصف الرئيس التركى رجب طيب أردوغان نفسه بأنه «عدو أسعار الفائدة المرتفعة»، وقد ربط معهد «كارنيجي» هذا النفور الشديد من الفائدة بالخلفية الإسلامية التى يرتكن إليها الرئيس، إذ يعتبر أن الربا محرّم فى الإسلام.
ووفق المعهد، كان الرئيس التركى حاسمًا فى محاربته لأسعار الفائدة العالية، التى ندّد بها فى العام 2018 ووصفها بأنها «أداة استغلال» شبيهة بـ«تجارة الهيروين» وبأنها «مصدر كل الشرور».
ولم تقتصر حملة أردوغان هذه على مجرد إطلاق تصريحات شديدة اللهجة، بل بلغت حدّ ممارسة ضغوط حادة على المصرف المركزى التركى ولجنة السياسة النقدية التابعة له لخفض معدلات الفائدة.
علاوةً على ذلك، يتبنّى أردوغان أيضًا نظرية المؤامرة، فقد عبّر مرارًا عن معارضة ما وصفه بـ«لوبى أسعار الفائدة»، فى إشارة إلى ما يعتبره مجموعة سرية من الممولين اليهود الذين يسعون إلى تدمير الاقتصاد التركى للسيطرة على البلاد.
ويجادل أردوغان بأن تركيا تخوض «حرب الاستقلال الاقتصادية» متعهدا للجمهور بأنه «لن يتنازل عن هذه القضية أبدًا».
وظل أردوغان مثابرًا جدًا للإبقاء على أسعار الفائدة المنخفضة لدرجة أنه يطرد باستمرار مسؤولى البنك المركزى الذين هم على خلاف معه فيما يتعلق بأسعار الفائدة.
وفى أحد خطاباته المتلفزة، قال أردوغان: «إنهم يشتكون من استمرار خفض سعر الفائدة، لا تتوقع منى أى شيء آخر، كمسلم سأستمر فى فعل ما يخبرنا به ديننا، هذا هو الأمر».
وفى ظل هذا التاريخ العدائى مع الفائدة، تتزايد الشكوك بين المستثمرين حول ما إذا كان الرئيس التركى يستسلم للسياسات التقليدية أم أنها مناورة لكسب الوقت واستعادة الثقة الدولية قبل أن يشرع مجددا فى تنفيذ قناعاته.
ويقول الاقتصاديون إنه ليس من الواضح إلى أى مدى سيعطى أردوغان، الذى يدير البلاد بقبضة محكمة، الحرية لوزير المالية الجديد ومحافظة البنك المركزى.
وقالت أوزليم ديريسى سينجول، الخبيرة الاقتصادية والشريك المؤسس لشركة سبين للاستشارات فى إسطنبول «الأسواق ليست مقتنعة بعد» بعودة أردوغان إلى السياسات التقليدية.
وأوضحت أن هناك شكوكاً حول ما إذا كان أردوغان «سيسمح باستقلال غير محدود للبنك المركزى والمؤسسات الأخرى، أم أن لديه استراتيجية أخرى».
وقال إمرى بيكر، المدير فى مجموعة أوراسيا: «من المرجح أن يتمتع وزير المالية الجديد بتفويض قوى فى وقت مبكر من فترة ولايته، لكنه قد يواجه رياحًا سياسية معاكسة متزايدة بسرعة لتنفيذ السياسات نفسها مع اقتراب الانتخابات المحلية فى مارس 2024».
فى حين، قال أنتونى سكينر، رئيس الأبحاث فى شركة الاستشارات العالمية «مارلو جلوبال»: «رغم التحديات الاقتصادية التى تواجهها تركيا، فمن غير المرجح أن يفوض أردوغان المسؤوليات ويخفف من أسلوبه الشخصى للغاية فى الحكم».
وتابع: «قد يعين مسؤولاً أو اثنين من كبار المسؤولين الذين تستسيغهم الأسواق، لكن من الواضح أنه هو من سيستمر فى اتخاذ القرارات».
ويرى محللون أن تعيين شيمشك هو إجراء يستهدف تجميل السياسات الاقتصادية الحالية، ولا يشكل تغييرا جذريا فى النهج غير التقليدى الذى يتبناه الرئيس أردوغان، الذى ربما يمنح شيمشك بعض الاستقلالية، تاركا له حرية فعل ما يحلو له من أجل إصلاح مواطن الخلل فى الاقتصاد التركى، على أن يعاود التدخل لاحقا والعودة سريعا إلى سياسة خفض الفائدة عندما تحقق الأسعار بعض الاستقرار.
فى حين يرى محللون آخرون، أن أردوغان ليس أمامه خيار آخر، فإذا كان يرغب فى مواصلة سياسته غير التقليدية، لن يتمكن شيمشك من تنفيذ التحول الاقتصادى المنشود، وهو ما سوف يفضى إلى تدهور الوضع بنهاية العام الجارى.
